للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل: فإنْ ناداهُ بحيثُ يسمَعُ، فلم يَسْمَعْ، لتَشاغُلِه، أو غَفْلَتِه، حَنِثَ. نَصَّ عليه أحمدُ، فإنَّه سُئِلَ عن رجُلٍ حَلَفَ أَنْ لا يُكلِّمَ فلانًا، فنَاداهُ، والمحلوفُ عليه لا يسْمَعُ؟ قال: يَحْنَثُ. لأَنَّه قد أرادَ تَكْلِيمَه، وهذا لكَوْنِ ذلك يُسمَّى تَكْليمًا، يقال: كَلَّمْتُه، فلم يَسْمَعْ. وإِنْ كان مَيِّتًا، أو غائِبًا، أو مُغْمًى عليه، أو أصَمَّ لا يَعْلَمُ بتَكْلِيمِه إيَّاه، لم يَحْنَثْ. وبهذا قال الشافِعِىُّ. وحُكِىَ عن أبى بكرٍ، أنَّه يَحْنَثُ بنداءِ المَيِّتِ؛ لأَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كلَّمَهُم ونادَاهم، وقال: "مَا أَنْتُمْ بأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ" (٢٥). وَلنا، قولُه تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ} (٢٦). ولأَنَّه قد بطلَت حَواسُّه، وذَهَبَتْ نَفْسُه، فكان أبْعَدَ من السّماعِ من الغائِبِ البعيدِ، لبقاءِ الحواسِّ فى حَقِّه، وإنَّما كان ذلك من النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كرامَةً له، وأمْرًا اخْتُصَّ به، فلا يُقاسُ عليه غيرُه.

فصل: وإِنْ سَلَّمَ على المحْلوفِ عليه، حَنِثَ؛ لأنَّ السلامَ كلامٌ تبْطُلُ الصَّلاةُ بِهِ. وإِنْ سَلَّمَ على جَماعَةٍ هو فيهم، أو كَلَّمَهم، فإنْ قَصَدَ المَحْلُوفَ عليه مع الجماعةِ، حَنِثَ؛ لأنَّه كلَّمَه، وإِنْ قَصَدَهم دُونَه، لم يَحْنَثْ. قال القاضى: لا يَحْنَثُ، روايةً واحِدةً. وهو مذهبُ الشافِعِىِّ؛ لأنَّ اللفظَ العامَّ يَحْتَمِلُ التخْصِيصَ، فإذا نَواهُ به، فهو على ما نَواهُ. وإِنْ أطلقَ، حَنِث. وبه قال الحسنُ، وأبو عُبَيْدٍ، ومالِكٌ، وأبو حنيفةَ؛ لأنَّه مُكَلِّمٌ لجميعِهم؛ لأنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ العُمومُ، فيُحْمَلُ على مُقْتَضاه عندَ الإِطْلاقِ. وقال القاضى: فيه رِوَايتان. وللشَّافِعِىِّ قَوْلان؛ أحَدُهما، لا يَحْنَثُ؛ لأَنَّ العامَّ يصْبُحُ للخُصوصِ، فلا يَحْنَثُ بالاحْتِمالِ. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لأنَّ هذا الاحْتمالَ مَرْجُوحٌ، فيتَعَيَّنُ العملُ بالرَّاجِحِ، كما لو (٢٧) احْتَمَلَ اللَّفْظُ المجازَ الذى ليس بمُشْتَهَرٍ، فإنَّه لا يَمْنَعُ حملَه على الحقيقَةِ عندَ إطْلاقِه. فإِنْ لم يعلَمْ أَنَّ المحلوفَ عليه فيهم، ففيه رِوَايتان؛ إحداهُما، لا يَحْنَثُ؛ لأنّه لم يُرِدْه، فأشْبَهَ ما لو اسْتَثْناه. والثانِيَةُ، يحنثُ؛ لأنَّه قد أرادَهم بسَلامِه، وهو منهم، وهذا بمنزِلَةِ النَّاسِى. وإن كان وحْدَه، فسلَّمَ عليه ولا يَعْرِفُه، فقال أحمدُ: يَحْنَثُ. ويَحْتَمِلُ أَنْ لا يَحْنَثَ؛ بِناءً على النَّاسِى والجاهِلِ.


(٢٥) تقدم تخريجه، فى: ١٠/ ٤٦٢، ٤٦٣.
(٢٦) سورة فاطر ٢٢.
(٢٧) سقط من: م.

<<  <  ج: ص:  >  >>