للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك لأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِى هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى". مُتَّفَقٌ عليه (١٩). ولو لزِمه المشْىُ إلى مسجدٍ بَعِيدٍ لشَدَّ الرَّحْلَ إليه، ولأنَّ العِبادةَ لا تَخْتَصُّ بمكانٍ دونَ مكانٍ، فلا يكونُ فِعْلُها فيما نَذَرَ فِعْلَها فيه قُرْبةً، فلا تَلْزَمُه بنَذْرِهِ، وفارَقَ ما لو نَذَرَ العبادةَ فى يومٍ بعَيْنِه، لَزِمَه فِعْلُها فيه؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى عيَّنَ لعبادتِه زمنًا ووَقتًا مُعَيَّنًا، ولم يُعَيِّنْ لها مكانًا ومَوْضِعًا، والنُّذورُ مَرْدُودةٌ إلى أُصولِها فى الشَّرْعِ، فتَعيَّنَتْ بالزَّمانِ دونَ المكانِ.

فصل: وإن نَذَرَ المشْىَ إلى بيتِ اللَّهِ تعالى، ولم يَنْوِ به شيئًا، ولم يُعَيِّنْه، انْصَرفَ إلى بيتِ اللَّهِ الحرامِ؛ لأنَّه المخْصوصُ بالقَصْدِ دونَ غيرِه، وإطْلاقُ بيتِ اللَّهِ ينْصَرِفُ إليه دونَ غيرِه فى العُرفِ، فيَنْصَرِفُ إليه إطْلاقُ النَّذْرِ.

فصل: وإن نذرَ المشْىَ إلى مسجدِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو المسجدِ الأقْصَى، لَزِمَه ذلك. وبهذا قال مالكٌ، والأوْزاعىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، وابنُ المُنْذرِ. وهو أحدُ قولَى الشَّافعىِّ، وقال فى الآخَرِ: لا يَبِينُ لى وُجوبُ المشْى إليهما؛ لأنَّ البِرَّ بإتْيانِ بيتِ اللَّهِ فرْضٌ، والبِرَّ بإتيانِ هذين نَفْلٌ. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ المسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِى هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى". ولأنَّه أحدُ المساجدِ الثلاثةِ، فيَلْزَم المشْىُ إليه بالنَّذْرِ، كالمسجدِ الحرامِ، ولا يَلْزَمُ ما (٢٠) ذكرَه؛ لأنَّ (٢١) كلَّ قُرْبَة تجب بِالنَّذْرِ، وإِنْ لم يكُنْ لها أصلٌ فى الوُجوبِ، كعِيادةِ المريضِ، وشُهودِ الجنائزِ، ويَلْزَمُه بهذا النَّذْرِ أَنْ يُصَلِّىَ فى الموضِعِ الذى أتاهُ رَكْعَتيْن؛ لأنَّ القَصْدَ بِالنَّذْرِ القُرْبَةُ والطَّاعةُ، وإنَّما تحْصِيلُ ذلك بالصَّلاةِ، فتَضمَّنَ ذلك نذرُه، كما يَلْزَمُ ناذِرَ المشْى إلى بيتِ اللَّه الحرامِ أحدُ النُّسُكَيْن، ونَذْرُ الصلاةِ فى أحدِ المسجديْن كنَذْرِ المشْىِ إليه، كما أَنَّ نذْرَ أحَدِ النُّسُكَيْن فى المسجدِ الحرامِ كنَذْرِ المشْى إليه. وقال أبو حنيفةَ: لا تتَعَيَّنُ عليه الصلاةُ فى موضِعٍ بالنَّذْرِ، سواءٌ كان فى المسجدِ الحرامِ أو غيرِه؛ لأنَّ ما لا أصلَ له فى الشَّرْعِ، لا يجِبُ بالنَّذْرِ، بدليل نَذْرِ الصَّلاةِ فى سائرِ المساجدِ. ولَنا، ما رُوِىَ أَنَّ عمرَ قال: يا رسولَ اللَّهِ،


(١٩) تقدم تخريجه، فى: ٣/ ١١٧.
(٢٠) فى ب: "بما".
(٢١) فى ب: "فإن".

<<  <  ج: ص:  >  >>