للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل: إذا جاءَ المسلمُ بمُشْرِكٍ ادَّعَى أنَّه أسَرَه، وادَّعَى الكافِرُ أنَّه أمَّنَهُ، ففيها ثلاثُ رواياتٍ؛ إحْداهُن، القولُ قولُ المسلِمِ؛ لأنَّ الأصْلَ معه، فإنَّ الأصلَ إباحَةُ دَمِ الحَرْبِىِّ، وعَدَمُ الأمانِ. والثانيةُ، القولُ قولُ الأسيرِ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ صِدْقَه وحَقْنَ دَمِه، فيكونُ هذا شُبْهَةً تمْنَعُ مِن قَتْلِه. وهذا اختيارُ أبى بكرٍ. والثالثةُ، يُرْجَعُ إلى قولِ مَن ظاهرُ الحالِ يدلُّ على صِدْقِه، فإنْ كان الكافرُ ذا قُوَّةٍ، معه سلاحُه، فالظاهِرُ صِدْقُه، وإنْ كان ضَعِيفًا مَسْلُوبًا سِلاحُه، فالظاهِرُ كَذِبُه، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِه. وقال أصحابُ الشافِعِىِّ: لا يُقْبَلُ قولُه وإنْ صدَّقَه المسلمُ؛ لأنَّه لا يَقْدِرُ على أمانِه، فلا يُقْبَلُ إقْرارُه به. ولَنا، أنَّه كافِرٌ، لم يثْبُتْ أسرُه، ولا نازَعَه فيه مُنازِعٌ، فقُبِلَ قولُه فى الأمانِ، كالرسولِ.

فصل: ومَنْ طَلَبَ الأمانَ ليَسْمَعَ كلامَ اللَّه، ويَعْرِفَ شرائِعَ الإسلامِ، وجبَ أنْ يُعْطاهُ، ثم يُرَدُّ إلى مَأْمَنِه. لا نَعْلمُ فى هذا خلافًا. وبه قال قَتادَةُ، ومَكْحُولٌ، والأوْزاعِىُّ، والشافِعِىُّ. وكتَبَ عمرُ بن عبد العزيز بذلك إلى الناسِ؛ وذلك لقولِ اللَّه تعالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (٢٠). قال الأوْزَاعِىُّ: هى إلى يومِ القيامَةِ. ويجوزُ عَقْدُ الأمانِ للرسولِ والمُسْتَأْمِنِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُؤمِّنُ رُسُلَ المشركين. ولما جاءَه رَسُولَا مُسَيْلِمةَ، قال: "لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا" (٢١). ولأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو إلى ذلِك، فإنَّنا لو قَتَلْنا رُسُلَهم، لقَتَلُوا رُسُلَنا، فتفُوتُ مَصْلحَةُ المُراسَلَةِ. ويجوزُ عَقْدُ الأمانِ لكلِّ واحدٍ منهما مُطْلَقًا ومُقَيَّدًا بمُدَّةٍ، سواءٌ كانت طويلةً أو قصيرةً، بخلافِ الهُدْنَةِ، فإنَّها لا تجوزُ إلَّا مُقَيَّدَةً، لأنَّ فى جَوازِها مُطْلَقًا تَرْكًا للجهادِ، وهذا بخلافِه. قال القاضى: ويجوزُ أنْ يُقِيمُوا مُدَّةَ الهُدْنَةِ بغيرِ جِزْيَةٍ. قال أبو بكر: وهذا ظاهِرُ كلامِ أحمد؛ لأنّه قيل له: قال الأوْزاعِىُّ: لا يُتْرَكُ المُشْرِكُ فى دارِ الإسلامِ إلَّا أنْ يُسْلِمَ أو يُؤَدِّىَ. فقال أحمد: إذا أمَّنْتَه، فهو على ما أمَّنْتَه (٢٢). وظاهِرُ هذا أنَّه خالَفَ قولَ الأوْزَاعِىِّ. وقال أبو


(٢٠) سورة التوبة ٦.
(٢١) تقدم تخريجه، فى: ١٢/ ٢٧١.
(٢٢) فى الأصل: "أمن".

<<  <  ج: ص:  >  >>