للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يثْبُتَ ذلك بإقْرارِهِما على أنْفُسِهما من غيرِ مُوافقةِ المحكومِ له، فيكونَ ذلك رُجوعًا منهما عن شَهادتِهما، وقد بَيَّنَّا حكمَ ذلك.

فصل: فإذا تابَ شاهدُ الزُّورِ، وأَتَتْ على ذلك مُدَّةٌ تظْهَرُ فيها تَوْبتُه، وتَبيَّنَ صِدْقُه فيها، وعَدالتُه، قبِلتْ شهادتُه. وبهذا قالَ أبو حنيفةَ، والشَّافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ. وقال مالكٌ: لا تُقْبَلُ شهادته أبدًا؛ لأنَّ ذلك لا يُؤْمَنُ منه. ولَنا، أنَّه تائِبٌ مِن ذَنْبِه، فقُبِلَتْ تَوْبتُه، كسائرِ التَّائبينَ. وقولُه: لا يُؤْمَنُ منه ذلك. قُلْنا: مُجرَّدُ الاحْتمالِ لا يَمْنَعُ قَبولَ الشَّهادةِ، بدليلِ سائرِ التَّائبين، فإنَّه لا يُؤْمَنُ منهم مُعاوَدةُ ذُنوبِهم ولا غيرِها، وشهادتُهم مَقْبولةٌ. واللَّهُ أعلمُ.

١٩٢٤ - مسألة؛ قال: (وَإِذَا غَيَّرَ الْعَدْلُ شَهَادَتَهُ بِحَضرةِ الْحَاكِمِ، فَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ، قُبِلَتْ مِنْهُ، مَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِ)

وهذا مثلُ أن يشْهدَ بمِائةٍ، ثم يقولَ: هى مائةٌ وخمسون. أو يقولَ: بل هى تِسعون. فإنَّه يُقْبَلُ منه رُجوعُه، ويُحْكَمُ بما شهِدَ به أَخيرًا. وبهذا قالَ أبو حنيفةَ، والثَّوْرىُّ، وسليمانُ بنُ حَبِيبٍ الْمُحارِبىُّ (١)، وإسحاقُ. وقال الزُّهْرىُّ: لا تُقْبَلُ شهادتُه الأُولَى ولا الآخِرةُ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما تَرُدُّ الأُخْرَى وتُعارِضُها، ولأَنَّ الأُولَى مَرجْوعٌ عنها، والثانيةَ غيرُ مَوْثوقٍ بها؛ لأنَّها من مُقِرٍّ بغَلَطِه وخَطِه فى شهادتِه، فلا يُؤْمَنُ أن يكونَ فى الغَلَطِ كالأُولَى. وقال مالكٌ: يُؤْخَذُ بأوَّلِ (٢) قَوْلَيْه؛ لأنَّه أدَّى الشَّهادةَ وهو غيرُ مُتَّهمٍ، فلم يُقْبَلْ رُجوعُه عنها، كما لو اتَّصَلَ بها الحكمُ. ولَنا، أَنَّ شهادتَه الآخِرةَ شهادة (٣) من عَدْلٍ غيرِ مُتَّهَمٍ، لم يَرْجِعْ عنها، فوجَبَ الحكمُ بها، كما لو لم يتَقدَّمْها ما يُخالفُها، ولا تُعارِضُها الأُولَى؛ لأنَّها قد بَطَلَتْ برُجوعِه عنها، ولا يجوزُ الحكمُ بها؛ لأنَّها شرطُ الحكمِ، فيُعْتَبرُ اسْتِمْرارُها إلى انْقضائِه (٤). ويُفارِقُ رُجوعَه بعدَ الحُكمِ؛ لأنَّ الحكمَ قد تمَّ باسْتمرارِ


(١) سليمان بن حبيب المحاربى، قاضى دمشق، إمام كبير القدر، حكم بدمشق ثلاثين سنة، توفى سنة ست وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء ٥/ ٣٠٩.
(٢) فى أ، ب، م: "بأقل".
(٣) سقط من: أ، ب، م.
(٤) فى الأصل: "انقضائها".

<<  <  ج: ص:  >  >>