للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَرْتَشِى ليَحْكُمَ بغيرِ الحقِّ، أو ليُوقفَ الحكمَ عنه، وذلك مِن أعظمِ الظُّلمِ. قال مَسْروقٌ: سألتُ ابنَ مسعودٍ عن السُّحْتِ، أهوَ الرِّشْوَة في الحُكمِ؟ قال: لا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (١٢) و {الظَّالِمُونَ} (١٢) و {الْفَاسِقُونَ} (١٢) ولكَنَّ السُّحتَ أن يَسْتعِينَكَ الرَّجُلُ على مَظْلَمةٍ، فيُهْدِىَ لك، فلا تَقْبَلْ (١٣). وقال قَتادةُ: قال كَعْبٌ: الرِّشْوَةُ تُسَفِّهُ الحلِيمَ، وتُعْمِى عينَ الحكيمِ. فأمَّا الرَّاشِى فإنْ رَشاهُ ليَحْكُمَ له بباطلٍ، أو يَدفعَ عنه حقًّا، فهو ملعونٌ، وإن رَشاه ليَدفعَ ظُلْمَه، ويَجْزِيَه على واجبِه، فقد قال عَطاءٌ، وجابرُ بنُ زيدٍ، والحسنُ: لا بَأْسَ أن يُصانِعَ عن نفسِه. قال جابرُ بنُ زيدٍ: ما رأيْنا فِى زَمنِ زِيَادٍ (١٤) أنْفَعَ لنا مِن الرِّشا. ولأنَّه يَسْتَنْقِذُ مالَه كما يَسْتَنْقِذُ الرَّجلُ أسيرَه. فإن ارْتشَى الحاكمُ، أو قبلَ هَدِيَّةً ليس له قَبولُها، فعليه رَدُّها إلى أرْبابِها؛ لأنَّه أخذَها (١٥) بغيرِ حقٍّ، فأشْبَهَ المَأْخوذَ بعَقْدٍ فاسدٍ. ويَحْتَمِلُ أن يَجْعلَها في بيتِ المالِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأْمُرِ ابن اللُّتْبيَّةِ برَدِّها على أرْبابِها. وقد قال أحمدُ: إذا أهْدَى البِطْريقُ لصاحبِ الجيشِ عَيْنًا أو فِضَّةً، لم تكُنْ له دونَ سائرِ الجيشِ. قال أبو بكرٍ: يكونُون فيه (١٦) سَواءٌ.

فصل: ولا يَنْبَغِى للقاضى أن يَتولَّى البَيْعَ والشِّراءَ بنفسِه؛ لما رَوَى أبو الأسْوَدِ المالِكيُّ، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِى رَعِيَّتِهِ أَبَدًا" (١٧). ولأنَّه يُعْرَفُ فيُحابَى، فيَكونُ كالهَدِيَّةِ، ولأنَّ ذلك يَشْغَلُه عن النَّظرِ في أُمورِ الناسِ. وقد رُوِىَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، رَضِىَ اللهُ عنه، أنَّه لمَّا بُويِعَ، أخذَ الذِّراعَ وقصَد السُّوقَ، فقالوا: يا خليفةَ رسولِ اللهِ، لا يَسَعُك أن تَشْتَغِلَ عن أُمورِ المسلمين. قال: فإنِّى لا أدَعُ عِيالِى يَضِيعُون. قالوا: فنحن نَفْرِضُ لك ما يَكْفِيكَ. ففرَضُوا له كلَّ يومٍ دِرْهميْن (١٨). فإن باعَ واشْترَى، صَحَّ البَيْعُ؛ لأنَّ البيعَ تمَّ بشُروطِه وأرْكانهِ. وإن احْتاجَ


(١٢) الآيات ٤٤، ٤٥، ٤٧، من سورة المائدة.
(١٣) أخرجه البيهقى، في: باب التشديد في أخذ الرشوة، من كتاب آداب القاضى. السنن الكبرى ١٠/ ١٣٩.
(١٤) في م: "زيادة". وهو يعنى زياد بن أبيه.
(١٥) في ب زيادة: "منهم".
(١٦) في ب: "فيها".
(١٧) عزاه السيوطى إلى الحاكم في الكنى. انظر: الفتح الكبير ٣/ ٩٦. فيض القدير ٥/ ٤٥٦.
(١٨) تقدم تخريجه، في: صفحة ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>