للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يأْكُلْ ولم يشْرَبْ، فماتَ، دخلَ النَّارَ. وهذا اخْتيارُ ابن حامدٍ، وذلك لقولِ اللَّه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (١١). وَتَرْكُ الأَكْلِ مع إمكانِه فى هذا الحالِ، إلقاءٌ بِيَدِه إلى التَّهْلُكَةِ، وقال اللَّه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (١٢). ولأَنَّه قادِرٌ على إِحْياءِ نَفْسِه بما أحَلَّه اللَّه له، فلَزِمَهُ، كما لو كانَ معه طعامٌ حلالٌ. والثانى، لا يَلْزَمُه؛ لما رُوِىَ عن عبدِ اللَّه بنِ حُذافَةَ السَّهْمِىِّ، صاحبِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنَّ طاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَه فى بيتٍ، وجَعَلَ معه خَمْرًا مَمْزُوجًا بماءٍ، ولحمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِىٍّ (١٣)، ثلاثةَ أيامٍ، فلم يأكُلْ ولم يشْرَبْ، حتى مالَ رأسُه من الجُوعِ والعَطَشِ، وخَشَوا مَوْتَه، فأخْرَجُوه، فقال: قد كان اللَّه أحَلَّه لى؛ لأَنِّى مُضْطَرٌّ، ولكنْ لم أكُنْ لأُشْمِتَكَ بدينِ الإِسْلامِ (١٤). ولأَنَّ إباحَةَ الأَكْلِ رُخْصَةٌ، فلا تَجِبُ عليه، كسائِرِ الرُّخَصِ، ولأَنَّ له غَرَضًا فى اجْتنابِ النَّجاسَةِ، والأَخْذِ بالعَزِيمَةِ، وربَّما لم تَطِبْ نفسُه بتَناوُلِ المَيْتَةِ، وفارقَ الحَلالَ فى الأَصْلِ من هذه الوُجُوهِ.

فصل: وتُباحُ المُحَرَّماتُ عندَ الاضْطِرارِ إليها، فى الحَضَرِ والسَّفَرِ جميعًا؛ لأنَّ الآيَةَ مُطْلَقَةٌ، غيرُ مُقَيَّدَةٍ بإحْدَى الحالَتَيْن، وقولُه: {فَمَنِ اضْطُرّ}. لَفْظٌ عامٌّ فى حَقِّ (١٥) كُلِّ مضطرٍّ، ولأنَّ الاضْطِرارَ يكونُ فى الحَضَرِ فى سَنَةِ الْمَجاعَةِ، وسبَبُ الإِباحَةِ الحاجةُ إلى حِفْظِ النَّفْسِ عن الهلاكِ، لكَوْنِ هذه المصلحةِ أعْظَمَ من مَصْلَحَةِ اجْتِنابِ النَّجاساتِ، والصِّيانَةِ عن تَناوُلِ المُسْتَخْبَثاتِ، وهذا المعنى عامٌّ فى الحالتَيْن. وظاهِرُ كلامِ أحمد، أَنَّ الْمَيْتَةَ لا تحلُّ لمَنْ يقدرُ على دَفْعِ ضَرُورَتِه بالمَسْأَلة. ورُوِىَ عن أحمدَ، أنَّه قال: أكلُ الْمَيْتَةِ إنَّما يكونُ فى السَّفَرِ. يعنى أنَّه فى الحَضَرِ يُمْكِنُه السُّؤالُ. وهذا من أحمدَ خَرَجَ مَخْرَجَ الغالِبِ، فإنَّ الغالِبَ أَنَّ الحَضَرَ يُوجَدُ فيه الطَّعامُ الحَلالُ، ويُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرورَةِ بالسُّؤالِ، ولكنَّ الضَّرورَةَ أَمْرٌ مُعْتبَر بوُجودِ حَقِيقَتِه، لا يُكْتَفَى فيه بالْمَظنَّةِ،


(١١) سورة البقرة ١٩٥.
(١٢) سورة النساء ٢٩.
(١٣) فى النسخ: "مشوق". تحريف. وانظر: الشرح الكبير ٦/ ٤١.
(١٤) تقدم تخريجه، فى: ١٢/ ٥٠٠.
(١٥) لم ترد فى: الأصل، أ، ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>