للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقِيمَ الرَّجُلُ - يعني أخاه - مِن مقْعَدِهِ، ويَجْلِسَ فيه. متَّفَقٌ عليه (٣٣). ولأنَّ المَسْجِدَ بَيْتُ اللهِ، والنَّاسُ فيه سَوَاءٌ، قال اللهُ تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (٣٤). فمَن سَبَقَ إلى مكانٍ فهو أحَقُّ به؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَبَقَ إلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أحَقُّ بِهِ". رَوَاه أبو دَاوُدَ (٣٥)، وكمَقَاعِدِ الأسْواقِ، ومَشارِعِ المِيَاهِ والمَعَادِنِ، فإنْ قَدَّمَ صَاحِبًا له، فَجَلَسَ في موْضِعٍ، حتى إذا جَاءَ قَامَ النَّائِبُ وأجْلَسَه، جازَ؛ لأنَّ النَّائِبَ يَقُومُ بِاخْتِيَارِه، وقد رُوىَ أن محمدَ بن سِيرِينَ كان يُرْسِلُ غُلَامًا له يَوْمَ الجُمُعَةِ، فيَجْلِسُ فيه، فإذا جَاءَ محمدٌ قَامَ الغُلَامُ، وجَلَسَ محمدٌ فيه. وإنْ لم يَكُنْ نَائِبًا فقَامَ لِيَجْلِسَ آخَرُ في مَكَانِه، فله الجُلُوسُ فيه؛ لأنَّه قامَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِه، فأشْبَهَ النَّائِبَ. وأمَّا القَائِمُ فإن انْتَقَلَ إلى مثلِ مَكَانِه الذي آثَرَ به في القُرْبِ، وسَمَاعِ الخُطْبَةِ، فلا بَأْسَ، وإن انْتَقَلَ إلى ما دُونَه، كُرِهَ له؛ لأنَّه يُؤْثِرُ على نَفْسِه في الدِّينِ. ويَحْتَمِلُ أنْ لا يُكْرَهَ؛ لأنَّ تَقْدِيمَ أهْلِ الفَضْلِ إلى ما يلي الإِمامَ مَشْرُوعٌ، ولذلك قال النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيِلنِي مِنْكُم أُولُو الأَحْلَامِ والنُّهَى" (٣٦). ولو آثَرَ شَخْصًا بمكانِه، لم يَجُزْ لِغَيْرِه أن يَسْبِقَه إليه؛ لأنَّ الحَقَّ لِلْجالِسِ آثَرَ به غيرَه فقامَ مَقامَه في اسْتِحْقَاقِه، كما لو تَحَجَّرَ مَوَاتًا، أو سَبَقَ إليه، ثم آثَرَ غيرَه به. وقال ابنُ عَقِيلٍ: يجوزُ (٣٧) ذلك؛ لأنَّ القَائِمَ أسْقَطَ حَقَّهُ بالقِيامِ،


(٣٣) أخرجه البخاري، في: باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه، من كتاب الجمعة. صحيح البخاري ٢/ ١٠. ومسلم، في: باب تحريم إقامة الإِنسان من موضعه. . . . إلخ، من كتاب السلام. صحيح مسلم ٤/ ١٧١٤، ١٧١٥. كما أخرجه الترمذي، في: باب كراهية أن يقام الرجل من مجلسه. . . إلخ، من أبواب الأدب. عارضة الأحوذي ١٠/ ٢٠٨، ٢٠٩. والدارمي، في: باب لا يقيمن أحدم أخاه من مجلسه، من كتاب الاستئذان. سنن الدارمي ٢/ ٢٨١، ٢٨٢. والإمام أحمد، في: المسند ٢/ ١٧، ٢٢، ٤٥، ٨٩، ١٠٢، ١٢١، ١٢٤، ١٢٦، ١٤٩.
(٣٤) سورة الحج ٢٥.
(٣٥) في: باب في إقطاع الأرضين، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود ٢/ ١٥٨.
(٣٦) تقدم تخريجه في صفحة ٥٨.
(٣٧) في م: "نحو" خطأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>