للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكنَّه لا يَغْلِبُ على ظَنِّه ذلك، كُرِهَ له التَّقْبِيلُ؛ لأنَّه يُعَرِّضُ صَوْمَه لِلْفِطْرِ، ولا يَأْمَنُ عليه الفَسادَ. وقد رُوِىَ عن عمرَ، أنَّه قال: رَأيتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المَنَامِ، فأعْرَضَ عَنِّى، فَقُلْتُ له: مَالِى؟ فقال: "إنَّكَ تُقَبِّلُ وأَنْتَ صَائِمٌ" (٥٢). ولأنَّ العِبادَةَ إذا مَنَعَتِ الوَطْءَ مَنَعَتِ القُبْلَةَ، كالإحْرَامِ. ولا تَحْرُمُ القُبْلَة في هذه الحالِ؛ لما رُوِىَ أن رَجُلًا قَبَّلَ وهو صَائِمٌ، فأرْسَلَ امْرَأَتَهُ، فسألتِ النَّبِىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخْبَرَها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه يُقَبِّلُ وهو صَائِمٌ، فقال الرَّجُلُ: إِن رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس مِثْلَنا، قد غَفَرَ اللهُ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِه وما تَأَخَّرَ. فغَضبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقال: "إنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ، وأعْلَمُكُم بِمَا أتَّقِي". رَوَاهُ مُسْلِمٌ بمعناه (٥٣). ولأنَّ إفْضَاءَهُ إلى إفْسادِ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فيه، ولا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بالشَّكِّ، فأمَّا إنْ كان مِمَّنْ لا تُحَرِّكُ القُبْلَةُ شَهْوَتَه، كالشَّيْخِ الهِمِّ (٥٤)، ففيه روايتانِ؛ إحْدَاهما، لا يُكْرَهُ له ذلك. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ، والشَّافِعِيُّ؛ لأنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُقَبِّلُ وهو صَائِمٌ لمَّا كان مَالِكًا لأرَبِه، وغيرُ ذِى الشَّهْوَةِ في مَعْنَاه. وقد رَوَى أبو هُرَيْرَةَ أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ، فرَخَّصَ له، فأتَاهُ آخَرُ، فسَألَهُ، فنَهَاهُ، فإذا الذى رَخَّصَ له شَيْخٌ، وإذا الذى نَهَاهُ شَابٌّ. أخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ (٥٥). ولأنَّها مُبَاشَرَةٌ لغيرِ شَهْوَةٍ، فأشْبَهَتْ لَمْسَ اليَدِ لِحَاجَةٍ. والثانية، يُكْرَهُ؛ لأنَّه لا يَأْمَنُ حُدُوثَ الشَّهْوَةِ، ولأنَّ الصَّوْمَ عِبادَةٌ تَمْنَعُ الوَطْءَ، فاسْتَوَى في القُبْلَةِ فيها مَن تُحَرِّكُ شَهْوَتَه، وغيرُه، كالإحْرامِ. فأمَّا اللَّمْسُ لغيرِ شَهْوَةٍ، كلَمْسِ يَدِهَا لِيَعْرِفَ


(٥٢) أخرجه البيهقى، في: باب كراهة القبلة لمن حركت شهوته، من كتاب الصيام. السنن الكبري ٤/ ٢٣٢. وابن أبي شيبة، في: باب من رخص في القبلة للصائم، من كتاب الصيام. المصنف ٣/ ٦٢.
(٥٣) في: باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة. . .، من كتاب الصيام. صحيح مسلم ٢/ ٧٧٩. كما أخرجه الإمام مالك، فى: باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم، من كتاب الصيام. الموطأ ١/ ٢٩١، ٢٩٢. والإمام أحمد، في: المسند ٥/ ٤٣٤.
(٥٤) في ب، م: "الهرم". والهم: الكبير الفاني.
(٥٥) في: باب كراهيته للشاب، من كتاب الصيام. سنن أبي داود ١/ ٥٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>