للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعِكْرِمَةُ. وبه قال مالِكٌ، وإسْحاقُ. ورُوِىَ ذلك عن طاوسٍ. قال مالِكٌ: لم يَزَلْ أهْلُ العِلْمِ يَنْهَونَ عن ذلك. وعن أحمدَ، أنّ هذا مَكْرُوهٌ غيرُ مُحَرَّمٍ، فإنَّ بَكْرَ بنَ محمدٍ رَوَى عن أبِيهِ، أنَّه سَأَلَه عن الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعامَ جُزافًا، وقد عَرَفَ كَيْلَه، وقلتُ له: إنّ مالِكًا يقول: إذا باعَ الطَّعامَ ولم يَعْلَم المُشْتَرِى، فإنْ أحَبَّ أنْ يَرُدَّ رَدَّه. قال: هذا تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ، ولكنْ لا يُعْجِبُنِى إذا عَرَفَ كَيْلَه، إلَّا أنْ يُخْبِرَه، فإنْ باعَه، فهو جائِزٌ عليه، وقد أساءَ. ولم يَرَ أبو حنيفةَ، والشَّافِعِيُّ، بذلك بَأْسًا؛ لأنَّه إذا جازَ البَيْعُ مع جَهْلِهِما بمِقْدارِه، فمع العِلْمِ من أحَدِهما أوْلَى. ووَجْهُ الأوَّلِ، ما رَوَى الأوْزاعِيُّ، أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ عَرَفَ مَبْلَغَ شَىْءٍ فَلَا يَبِعْهُ جُزَافًا حَتَّى يُبَيِّنَهُ" (١). قال القاضِى: وقد رُوِىَ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنَّه نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ مُجَازَفَةً، وهو يَعْلَمُ كَيْلَهُ (١). والنَّهْىُ يَقْتَضِى التَّحْرِيمَ، وأيضًا الإِجْماعُ الذى نَقَلَه مالِكٌ، ولأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ البائِعَ لا يَعْدِلُ إلى البَيْعِ جُزَافًا مع عِلْمِه بِقَدْرِ الكَيْلِ، إلَّا للتَّغْرِيرِ بالمُشْتَرِى والغِشِّ له، ولذلك أثَرٌ فى عَدَمِ لُزُومِ العَقْدِ، وقد قال عليه السَّلامُ: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا". فصارَ كما لو دَلَّسَ العَيْبَ. فإنْ باعَ ما عَلِمَ كَيْلَه صُبْرَةً، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ فى رِوايَةِ محمدِ بن الحَكَمِ، أنَّ البَيْعَ صَحِيحٌ لَازِمٌ. وهو قولُ مالِكٍ والشَّافِعِيِّ؛ لأنَّ المَبِيعَ مَعْلُومٌ لهما، ولا تَغْرِيرَ من أحَدِهِما، فأَشْبَه ما لو عَلِما كَيْلَه أو جَهِلاه، ولم يَثْبُتْ ما رُوِىَ من النَّهْىِ فيه، وإنَّما كَرِهَه أحمدُ كَراهَةَ تَنْزِيهٍ؛ لِاخْتِلافِ العُلَماءِ فيه. ولأنَّ اسْتِواءَهما فى العِلْمِ والجَهْلِ أبعدُ من التَّغْرِيرِ. وقال القاضِى وأصْحابُه: هذا بمَنْزِلَةِ التَّدْلِيسِ والغِشِّ، إنْ عَلِمَ به المُشْتَرِى، فلا خِيَارَ له؛ لأنّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ، فهو كما لو اشْتَرَى مُصَرَّاةً، يَعْلَمُ تَصْرِيَتَها. وإنْ لم يَعْلَمْ أنَّ البائِعَ كان عالِمًا بذلك، فله الخِيارُ فى الفَسْخِ، والإِمْضاءِ. وهذا قولُ مالِكٍ؛ لأنَّه غِشٌّ، وغَرَرٌ (٢) من البائِعِ، فصَحَّ


(١) أخرجهما عبد الرزاق، فى: باب المجازفة، من كتاب البيوع. المصنف ٨/ ١٣١.
(٢) فى الأصل: "وغرور".

<<  <  ج: ص:  >  >>