للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيَشْتَرُونَ منهم الأَمْتعَةَ قبلَ أن تَهْبِطَ الأسْواقَ، فربما غَبَنُوهُم غَبْنًا بَيِّنًا، فيَضُرُّونهم، وربما أضَرُّوا بأهْلِ البلدِ؛ لأنَّ الرُّكْبانَ إذا وَصَلُوا باعُوا أَمْتِعَتَهُم، والذين يَتَلَقَّونَهم لا يَبِيعُونَها سَرِيعًا، ويَتَرَبَّصُونَ بها السِّعْرَ، فهو فى مَعْنَى بَيْعِ الحاضِرِ لِلْبَادِى، فنَهَى النَّبِىُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك. ورَوَى طاوسٌ عن أبِيهِ عن ابن عَبَّاسٍ قال: قال رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، ولا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ". وعن أبي هُرَيْرَةَ مثلُه، مُتَّفَقٌ عليهما (٢)، وكَرِهَهُ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ، منهم عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالِكٌ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِىُّ، والشَّافِعِىُّ، وإسْحَاقُ. وحُكِىَ عن أبي حنيفةَ أنَّه لم يَرَ بذلك بَأْسًا. وسُنَّةُ رسولِ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحَقُّ أن تُتَّبَعَ. فإن خالَفَ، وتَلَقَّى الرُّكْبانَ، واشْتَرَى منهم، فَالبَيْعُ صَحِيحٌ فى قولِ الجَميعِ. وقالَه ابنُ عبدِ البَرِّ. وحُكِىَ عن أحمدَ، رِوايَةٌ أخْرَى، أنَّ البَيْعَ فاسِدٌ لِظَاهِرِ النَّهْىِ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لأنَّ أبا هُرَيْرَةَ رَوَى أنَّ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تَلَقَّوْا الجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ، واشْتَرَى مِنْهُ، فَإذَا أتَى السُّوقَ فَهُوَ بالْخِيَارِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٣)، والخِيَارُ لا يكونُ إلَّا فى عَقْدٍ صَحِيحٍ، ولأنَّ النَّهْىَ لا لِمَعْنًى فى البَيْعِ، بل يَعُودُ إلى ضَرْبٍ من الخَدِيعَةِ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُها بإثْبَاتِ الخِيَارِ، فأشْبَه بَيْعَ المُصَرَّاةِ، وفارَقَ بَيْعَ الحاضِرِ لِلْبَادِى، فإنَّه لا يمكنُ اسْتِدْرَاكُه بالخِيَارِ، إذ ليس الضَّرَرُ عليه، إنَّما هو على المسلمين. فإذا تَقَرَّرَ هذا، فَلِلْبَائِعِ الخِيارُ إذا عَلِمَ أَنَّه قد غُبِنَ. وقال أصْحَابُ الرَّأْىِ: إلَّا خِيَارَ له. وقد رَوَيْنَا قولَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى هذا، ولا قولَ لأحَدٍ مع قولِه. وظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّه لا خِيارَ له إلَّا مع الغَبْنِ؛


(٢) حديث ابن عبَّاس، وحديث أبي هريرة، تقدَّم تخريجهما فى صفحة ٣٠٩.
(٣) فى: باب تحريم تلقى الجلب، من كتاب البيوع. صحيح مسلم ٣/ ١١٥٧.
كما أخرجه أبو داود، فى: باب فى التلقى، من كتاب البيوع. سنن أبي داود ٢/ ٢٤١. والترمذى، فى: باب ما جاء فى كراهية تلقى البيوع، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى ٥/ ٢٢٩. والنسائى، فى: باب التلقى، من كتاب البيوع. المجتبى ٧/ ٢٢٦. وابن ماجه، فى: باب النهى عن تلقى الجلب، من كتاب =

<<  <  ج: ص:  >  >>