للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (٥). ومنه قولُ الشَّاعرِ (٦):

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

وإنما سُمِّى هذا مُفْلِسًا؛ لأنَّه لا مَالَ له إلَّا الفُلُوسُ، وهى أَدْنَى أَنْوَاعِ المالِ. والمُفْلِسُ فى عُرْفِ الفُقَهَاءِ: مَن دَيْنُه أكْثَرُ من مَالِه، وخَرْجُه أكْثَرُ من دَخْلِه. وسمّوْهُ مُفْلِسًا وإن كان ذا مَالٍ؛ لأنَّ مَالَهُ مُسْتَحقُّ الصَّرْفِ فى جِهَةِ دَيْنِه، فكأنَّه مَعْدُومٌ. وقد دَلَّ عليه تَفْسِيرُ النَّبِىِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُفْلِسَ الآخِرَةِ، فإنَّه أخْبَرَ أنَّ له حَسَنَاتٍ أمثالَ الجِبَالِ، لكنَّها كانت دُونَ ما عليه، فقُسِمَتْ بينَ الغُرَمَاءِ، وبَقِىَ لا شَىءَ له. ويجوزُ أن يَكونَ سُمِّىَ بذلك لما يَؤُولُ إليه من عَدمِ مَالِه بعدَ وَفَاءِ دَيْنِه، ويجُوزُ أن يكونَ سُمِّى بذلك، لأنَّه يُمْنَعُ من التَّصَرُّفِ فى مَالِه، إلَّا الشَّىْءَ التَّافِهَ الَّذى لا يَعِيشُ إلَّا به، كالفُلُوسِ ونَحْوِها.

فصل: ومتى لَزِمَ الإِنْسَانَ دُيُونٌ حَالَّةٌ، لا يَفِى مَالُه بها، فسَألَ غُرَماؤُه الحاكِمَ الحَجْرَ عليه، لَزِمَتْه إجابَتُهم، ويُسْتَحَبُّ أن يَظْهَرَ الحَجْرُ عليه لِتُجْتَنَبَ مُعامَلَتُه، فإذا حُجِرَ عليه ثَبَتَ بذلك أربعةُ أحْكامٍ؛ أحَدُها، تَعَلُّقُ حُقُوقِ الغُرَمَاءِ بعَيْنِ مَالِه. والثانى، مَنْعُ تَصَرُّفِه فى عَيْنِ مَالِه. والثالث، أنَّ مَن وَجَدَ عَيْنَ مَالِه عندَه فهو أحَقُّ بها من سَائِرِ الغُرَمَاءِ إذا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ. الرابع، أنَّ لِلْحَاكِمِ بَيْعَ مَالِه وإِيفَاءَ الغُرَمَاءِ. والأصْلُ فى هذا ما رَوَى كَعْبُ بن مالِكٍ، أنَّ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَرَ على


(٥) أخرجه البخارى، فى: باب الغنى غنى النفس، من كتاب الرقاق. صحيح البخارى ٨/ ١١٨. ومسلم، فى: باب ليس الغنى عن كثرة العرض، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم ٢/ ٧٢٦. والترمذى، فى: باب ما جاء أن الغنى غنى النفس، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى ٩/ ٢٢١. وابن ماجه، فى: باب القناعة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه ٢/ ١٣٨٦. والإمام أحمد، فى المسند: ٢/ ٢٤٣، ٢٦١، ٣١٥، ٣٩٠، ٤٣٨، ٤٤٣، ٥٣٩، ٥٤٠.
(٦) نسب ابن منظور البيت، فى اللسان (م وت)، إلى عدى بن الرعلاء الغسانى، أحد بنى عمرو بن مازن، والرعلاء أمه، وكذلك نسبه ابن يعيش فى: شرح المفصل ١٠/ ٦٩. ونسبه ياقوت، فى معجم الأدباء ١٢/ ٩ إلى صالح بن عبد القدوس.

<<  <  ج: ص:  >  >>