للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَشْهَدَ البَيِّنَةُ بإعْسَارِه. قال ابنُ المُنْذِرِ: أكْثَرُ مَن نَحْفَظُ عنه من عُلَمَاءِ الأمْصَارِ وقُضَاتِهم، يَرَوْنَ الحَبْسَ فى الدَّيْنِ، منهم: مالِكٌ، والشَّافِعِىُّ، وأبو عُبَيْدٍ، والنُّعْمَانُ، وسَوَّارٌ، وعُبَيْدُ اللَّه بن الحسنِ. ورُوِىَ عن شُرَيْحٍ، والشَّعْبِىِّ. وكان عمرُ بن عبد العزِيزِ يقول: يُقْسَمُ مَالُه بين الغُرَمَاءِ، ولا يُحْبَسُ. وبه قال عبدُ اللهِ ابن جعفرٍ، واللَّيْثُ بن سَعْدٍ. ولَنا أنَّ الظَّاهِرَ قَولُ الغَرِيمِ، فكان القولُ قولَه، كسَائِرِ الدَّعَاوَى. فإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ بتَلَفِ مَالِه، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُم، سواءٌ كانت من أهْلِ الخِبْرَةِ البَاطِنَةِ أو لم تكُنْ؛ لأنَّ التَّلَفَ يَطَّلِعُ عليه أهْلُ الخِبْرَةِ وغيرُهم. وإن طَلَبَ الغَرِيمُ إحْلَافَه على ذلك، لم يُجَبْ إليه؛ لأنَّ ذلك تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ، وإن شَهِدَتْ مع ذلك بالإِعْسَارِ اكْتُفِىَ بِشهَادَتِها، وثَبَتَتْ عُسْرَتُه، وإن لم تَشْهَدْ بِعُسْرَتِه، وإنَّما شَهِدَتْ بالتَّلَفِ لا غيرُ، وطَلَبَ الغَرِيمُ يَمِينَه على عُسْرِهِ، وأنَّه ليس له مالٌ آخَرُ، اسْتُحْلِفَ على ذلك؛ لأنَّه غيرُ ما شَهِدَتْ به البَيِّنَةُ. وإن لم تَشْهَدْ بالتَّلَفِ، وإنَّما شَهِدَتْ بالإعْسَارِ، لم تُقْبَلِ الشهَادَةُ إلَّا من ذى خِبْرَةٍ باطِنَةٍ، ومَعْرِفَةٍ مُتَقَادِمَةٍ، لأنَّ هذا من الأُمُورِ البَاطِنَةِ، لا يَطَّلِعُ عليه فى الغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الخِبْرَةِ والمُخَالَطَةِ. وهذا مذهبُ الشَّافِعِىِّ، وحُكِىَ عن مالِكٍ أنَّه قال: لا تُسْمَعُ البَيِّنَةُ على الإِعْسَارِ؛ لأنَّها شَهَادَةٌ على النَّفْىِ، فلم تُسْمَعْ، كالشَّهَادَةِ على أنَّه لا دَيْنَ عليه. ولَنا، ما رَوَى قَبيصَةُ بنُ المُخَارِقِ، أنَّ النبىَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: "يَا قِبيصَةُ، إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلَّا لأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحلَّتِ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَها، ثم يُمْسِكَ، ورَجُل أصَابَتْه جَائِحَةٌ، فاجْتَاحَتْ مَالَه، فحَلَّتْ له المَسأَلَةُ، حتى يُصِيبَ قِوَامًا من عَيْشٍ" أو قال: "سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِه: لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ" أو قال: "سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وأبو دَاوُدَ (٣).


(٣) تقدم تخريجه فى: ٤/ ١١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>