للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُدَّعِىَ هاهُنا يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّه الثَّابِتِ له، والمُدَّعَى عليه يَدْفَعُه لِدَفْعِ الشَّرِّ عنه، وقَطْعِ الخُصُومَةِ، ولَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذلك فى مَوْضِعٍ، ولأنَّه صُلْحٌ يَصِحُّ مع الأَجْنَبِىِّ، فَصَحَّ مع الخَصْمِ، كالصُّلْحِ مع الإِقْرَارِ. يُحَقِّقُه أنَّه إذا صَحَّ مع الأَجْنَبِىِّ مع غِنَاهُ عنه، فلَأَنْ يَصِحَّ مع الخَصْمِ مع حَاجَتِه إليه أَوْلَى. وقولُهم: إنَّه مُعاوَضَةٌ. قُلْنا: فى حَقِّهِما أمْ فى حَقِّ أحَدِهما؟ الأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، والثانى مُسَلَّمٌ؛ وهذا لأنَّ المُدَّعِىَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ مِن المُنْكِرِ لِعِلْمِه بِثُبُوتِ حَقِّهِ عندَه، فهو مُعاوَضَةٌ فى حَقِّه، والمُنْكِرُ يَعْتَقِدُ أنَّه يَدْفَعُ المالَ لِدَفْعِ الخُصُومَةِ واليَمِينِ عنه، ويُخَلِّصُه من شَرِّ المُدَّعِى، فهو أَبْرَأُ فى حَقِّه، وغيرُ مُمْتَنِعٍ ثُبُوتُ المُعاوَضَةِ فى حَقِّ أحَدِ المُتَعاقِدَيْن دونَ الآخَرِ، كما لو اشْتَرَى عَبْدًا شَهِدَ بِحُرِّيَّتِه، فإنَّه يَصِحُّ، ويكونُ مُعاوَضَةً فى حَقِّ البائِعِ، واسْتِنْقَاذًا له من الرِّقِّ فى حَقِّ المُشْتَرِى، كذا هاهُنا. إذا ثَبَتَ هذا، فلا يَصِحُّ هذا الصُّلْحُ، إلَّا أنْ يكونَ المُدَّعِى مُعْتَقِدًا أنَّ ما ادَّعَاهُ حَقٌّ، والمُدَّعَى عليه يَعْتَقِدُ أنَّه لا حَقَّ عليه، فيَدْفَعُ إلَى المُدَّعِى شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِه، وقَطْعًا لِلْخُصُومةِ، وصِيَانَةً لِنَفْسِه عن التَّبَذُّلِ، وحُضُورِ مَجْلِسِ الحاكِمِ، فإنَّ ذَوِى النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ والمُرُوءَةِ يَصْعُبُ عليهم ذلك، ويَرَوْنَ دَفْعَ ضَرَرِها عنهم مِن أَعْظَمِ مَصالِحِهم، والشَّرْعُ لا يَمْنَعُهم مِن وِقَايَةِ أنْفُسِهِمْ وصِيَانَتِها، ودَفْعِ الشَّرِّ عنهم بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، والمُدَّعِى يَأْخُذُ ذلك عِوَضًا عن حَقِّه الثَّابِتِ له، فلا يَمْنَعُه الشَّرْعُ من ذلك أيضا، سواءٌ كان المأْخُوذُ مِن جِنْس حَقِّه، أو مِن غيرِ جِنْسِه، بِقَدْرِ حَقِّه أو دُونَه، فإن أخَذَ مِن جِنْسِ حَقِّه بِقَدْرِه فهو مُسْتَوْفٍ له، وإن أَخَذَ دُونَه، فقد اسْتَوْفَى بَعْضَه وتَرَكَ بعضَه، وإنْ أخَذَ مِن غير جِنْسِ حَقِّه فقد أخَذَ عِوَضَه. ولا يجوزُ أن يَأْخُذَ مِن جِنْسِ حَقِّه أكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ؛ لأنَّ الزَّائِدَ لا مُقَابِلَ له، فيكونَ ظَالِمًا بِأَخْذِه. وإنْ أخَذَ مِن غيرِ جِنْسِه جَازَ، ويكونُ بَيْعًا فى حَقِّ المُدَّعِى؛ لِاعْتِقادِه أَخْذَه عِوَضًا، فيَلْزَمُه حُكْمُ إقْرَارِه. فإن كان المَأْخُوذُ شِقْصًا فى دَارٍ أو عَقَارٍ، وَجَبَتْ فيه الشُّفْعَةُ، وإنْ وَجَدَ به عَيْبًا فلَهُ رَدُّه، والرُّجُوعُ فى دَعْوَاه، ويكونُ فى حَقِّ المُنْكِرِ بمَنْزِلَةِ الإِبْرَاءِ؛ لِأنَّه دَفَعَ المالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِه، ودَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه، لا عِوَضًا عن حَقٍّ يَعْتَقِدُه، فيَلْزَمُه أيضا حُكْمُ إقْرَارِه. فإنْ وَجَدَ بالمُصالَحِ عنه عَيْبًا، لم يَرْجِعْ به علَى المُدَّعِى؛

<<  <  ج: ص:  >  >>