للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قولُ أكْثَر أصْحابِ الشافِعِىِّ؛ لأنَّه عَقْدُ تَمْلِيكٍ، فافْتَقَرَ إلى الإِيجَابِ والقَبُولِ، كالنِّكَاحِ. والصَّحِيحُ أنَّ المُعاطَاةَ والأفْعالَ الدَّالَّةَ على الإِيجَابِ والقَبُولِ كافِيَةٌ، ولا يُحْتَاجُ إلى لَفْظٍ. وهذا اخْتِيَارُ ابنِ عَقِيلٍ؛ فإنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُهْدِى ويُهْدَى إليه، ويُعْطِى ويُعْطىَ، ويُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ، ويَأْمُرُ سُعاتَه بتَفْرِيقِها وأخْذِها، وكان أصْحَابُه يَفْعَلُونَ ذلك، ولم يُنْقَلْ عنهم في ذلك إيجابٌ ولا قَبُولٌ، ولا أُمِرَ به ولا تَعْلِيمهُ لأحدٍ، ولو كان ذلك شَرْطًا لَنُقِلَ عنهم نَقْلًا مُشْتَهَرًا (٧)، وكان ابنُ عمَرَ على بَعِيرٍ لِعمرَ، فقال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعمرَ: "بِعْنِيهِ". فقال: هو لك يا رسولَ اللَّه. فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَاصْنَعْ بِهِ ما شِئْتَ" (٨). ولم يُنْقَلْ قَبُولُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من عمرَ، ولا قَبُولُ ابنِ عمرَ من النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو كان شَرْطًا لفَعَلَهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَلِمَهُ ابنُ عمرَ، ولم يَكُنْ لِيَأْمُرَهُ أن يَصْنَعَ به ما شاءَ قبلَ أن يَقْبَلَهُ. ورَوَى أبو هُرَيْرةَ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أُتِىَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عنه، فإن قالوا: صَدَقَةً. قال لأصْحابِه: "كُلُوا". ولم يَأْكُلْ، وإن قالوا: هَدِيّةً. ضَرَبَ بِيَدِه، فأكَلَ معهم (٩). ولا خِلَافَ بين العُلَماءِ، فيما عَلِمْنَاهُ، في أنَّ تَقْدِيمَ الطَّعَامِ بين يَدَىِ الضِّيفَانِ إذْنٌ في الأَكْلِ، وأنَّه لا يَحْتَاجُ إلى قَبُولٍ بقَوْلِه. ولأنَّه وُجِدَ ما يَدُلُّ على التَّرَاضِى بِنَقْلِ المِلْكِ، فاكْتُفِىَ به، كما لو وُجِدَ الإِيجَابُ والقَبُولُ. قال ابنُ عَقِيلٍ: إنَّما يُشْتَرَطُ الإِيجابُ والقَبُولُ مع الإِطْلاقِ، وعَدَمِ العُرْفِ القائِمِ بين المُعْطِى والمُعْطَى؛ لأنَّه إذا لم يَكُنْ عُرْفٌ يَدُلُّ على الرِّضَا، فلا بُدَّ من قَوْلٍ دالٍّ عليه، أمَّا مع قَرَائِن الأحْوالِ والدَّلَائِلِ (١٠)، فلا وَجْهَ لِتَوَقُّفِه (١١) على اللَّفْظِ، ألَا تَرَى أنَّا اكْتَفَيْنا بالمُعَاطاةِ في البَيْعِ، واكْتَفَيْنَا بِدَلَالةِ الحالِ


(٧) في م: "مشهورا".
(٨) تقدم تخريجه في: ٦/ ٢٤، ٢٥.
(٩) تقدم تخريجه في: ٤/ ١١٦، ويضاف إليه: وأخرجه البخاري، في: باب ما يذكر في الصدقة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من كتاب الزكاة. صحيح البخاري ٢/ ١٥٧. والإِمام أحمد، في: المسند ٣/ ٤٩٠.
(١٠) في الأصل: "والدلالة".
(١١) في م: "لتوقيفه".

<<  <  ج: ص:  >  >>