للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولأنَّ الظِّهارَ تَحْرِيمٌ، فإذا أرادَ اسْتِباحَتَها، فقد رَجَعَ فى ذلك التَّحْرِيِمِ، فكان عائِدًا. وقال الشَّافِعِىُّ: العَوْدُ إمساكُها بعدَ ظِهارِه زَمَنًا يُمْكِنُه طَلاقُهَا فيه؛ لأنَّ ظِهارَه منها يَقْتَضِى إبانَتَها، فإمْساكُها عَوْدٌ فيما قال. وقال دَاوُدُ: العَوْدُ، تَكْرارُ الظِّهارِ مرَّةً ثانِيةً؛ لأنَّ العَوْدَ فى الشَّىءِ إعادتُه. ولَنا، أن العَوْدَ فِعْلٌ ضِدُّ قَوْلِه، ومنه العائِدُ فى هِبَتِه، هو الرَّاجِعُ فى المَوْهُوبِ، والعائِدُ فى عِدَتِهِ، التَّارِكُ للوَفاءِ بما وَعَدَ، والعائِدُ فيما نُهِى عنه فاعِلٌ المَنْهِىَّ عنه. قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. فالمُظاهِرُ مُحَرِّمٌ للوَطْءِ على نَفْسِهِ، ومانِعٌ لها منه، فالعَوْدُ فِعْلُه. وقولُهم: إنَّ العَوْدَ يَتَقَدَّمُ التَّكْفِيرَ، والوَطْءَ يَتَأَخَّرُ عنه. قلنا: المُرادُ بقولِه: {ثُمَّ يَعُودُونَ}. أى يُريدُونَ العَوْدَ، كقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (١٢). أىْ، أردْتُمْ ذلك. وقولُه تعالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (١٣). فإنْ قيل: فهذا تأْويلٌ، ثم هو رُجُوعٌ إلى إيجابِ الكفَّارَةِ بالعَزْمِ المُجَرَّدِ. قُلْنا: دليلُ التَّأوِيلِ، ما ذَكرْنا. والآمِرُ (١٤) بالكفَّارةِ عِنْدَ العَزْمِ فإنَّما أَمَرَ بها شَرْطًا للحِلِّ، كالأمْرِ بالطَّهارَةِ لمَنْ أرادَ صَلاةَ النَّافِلَةِ، والأمْرِ بالنَّيَّةِ لِمَنْ أرادَ الصَّيامَ. فأمَّا الإِمساكُ فليس بِعَوْدٍ؛ لأنَّه ليس بِعَوْدٍ فى الظِّهارِ المُؤَقَّتِ، فكذلك فى المُطْلَقِ، ولأنَّ العَوْدَ فِعْلُ ضِدَّ ما قالَه، والإِمساكُ ليس بِضِدٍّ له، وقولُهم: إنَّ الظِّهارَ يَقْتَضِى إبانَتَها. لا يَصِحُّ، وإنَّما يَقْتَضِى تَحْرِيمَها واجْتِنابَها، ولذلك صَحَّ تَوْقِيتُه، ولأنَّه قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}. وثم للتَّراخِى، والإِمساكُ غيرُ مُتَراخٍ. وأمَّا قَوْلُ دَاوُدَ فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ أوْسًا وسلَمَةَ بنَ صَخْرٍ بالكفَّارةِ مِن غيرِ إعادةِ اللَّفْظِ، ولأنَّ العَوْدَ إنما هو فى مَقُولِه دَونَ قَوْلِه، كالعَوْدِ فى الهِبَةِ والعِدَةِ، والعَوْدِ لِمَا نُهِى عنه، ويدلُّ على إبطالِ هذه الأَقْوالِ كُلِّها أَنَّ الظِّهارَ يَمِينٌ مُكَفَّرةٌ، فلا تَجِبُ الكفَّارةُ إلَّا بالحِنْثِ فيها، وهو فِعْلُ ما حَلَفَ على تَرْكِهِ كسائِرِ


(١٢) سورة المائدة ٦.
(١٣) سورة النحل ٩٨.
(١٤) فى أ، ب، م: "وأما الأمر".

<<  <  ج: ص:  >  >>