للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولأنَّه لو كان الإِجْحافُ مَشْرُوعًا، كان الجانِى أحَقَّ به، لأنَّه مُوجَبُ جِنايَتِه، وجَزاءُ فِعْلِه، فإذا لم يُشْرَعْ في حَقِّه، ففى حَقِّ غيرِه أَوْلَى. واخْتَلَفَ أهْلُ العلمِ فيما يَحْمِلُه كلُّ واحدٍ منهم؛ فقال أحمدُ: يَحْمِلُونَ على قَدْرِ ما يُطِيقُونَ. فعلى هذا لا يتَقَدَّرُ شَرْعًا، وإنَّما يُرْجَعُ فيه إلى اجْتِهادِ الحاكمِ، فيَفْرِضُ على كلِّ واحدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ ولا يُؤْذِى. وهذا مذهبُ مالكٍ؛ لأنَّ التَّقْديرَ لا يَثْبُتُ إلَّا بتَوْقِيفٍ، ولا يَثْبُتُ بالرَّأْىِ والتَّحَكُّمِ، ولا نَصَّ في هذه المسألةِ، فوَجَبَ الرُّجُوعُ فيها إلى اجْتهادِ الحاكمِ، كمَقادِيرِ النَّفَقاتِ. وعن أحمدَ، روايةٌ أُخْرَى، أنَّه يَفْرِضُ على المُوسِرِ نِصْفَ مِثْقالٍ؛ لأنَّه أقَلُّ مالٍ يتَقَدَّرُ في الزَّكاةِ، فكان مُعْتَبرًا بها، ويَجِبُ على المُتَوَسِّطِ رُبْعُ مِثقالٍ؛ لأنَّ ما دُونَ ذلك تافِهٌ، لكَوْنِ اليَدِ لا تُقْطَعُ فيه، وقد قالت عائشةُ، رَضِىَ اللهُ عنها: لا تُقْطَعُ اليَدُ (٣٧) في الشىءِ التَّافِه، وما دون رُبْعِ دِينارٍ لا قَطْعَ فيه (٣٨). وهذا اختيارُ أبى بكرٍ، ومذهبُ الشافعيِّ. وقال أبو حنيفةَ: أكثرُ ما يُجْعَلُ على الواحدِ أرْبَعةُ دَرَاهِم، وليس لأقَلِّه حَدٌّ؛ لأنَّ ذلك مالٌ يَجِبُ على سَبِيلِ المُواساةِ للقَرَابةِ، فلم يتَقَدَّرْ أقَلُّه، كالنَّفقةِ. قال: ويُسَوَّى بين الغَنِىِّ والمُتَوَسِّطِ لذلك. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لما ذكَرْنا من أنَّ التَّقْديرَ إنَّما يُصارُ إليه بتَوْقيفٍ، ولا تَوْقِيفَ فيه، وأنَّه يَخْتَلِفُ بالغِنَى والتَّوَسُّطِ، كالزَّكاةِ والنَّفَقةِ، ولا يخْتلِفُ بالقُرْبِ والبُعْدِ لذلك (٣٩). واخْتَلَفَ القائِلُونَ بالتَّقْديرِ بنِصْفِ دِينارٍ ورُبْعِه؛ قال بعضُهم: يتَكَرَّرُ الواجِبُ في الأعْوامِ الثَّلاثةِ، فيكونُ الواجبُ فيها على الغَنِىِّ دِينارًا ونِصْفًا، وعلى المُتَوَسِّطِ ثلاثةَ أرْباعِ دينارٍ؛ لأنَّه حَقٌّ يتَعَلَّقُ بالحَوْلِ على سبيلِ المُواساةِ، فيتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ الحَوْلِ، كالزكاةِ. وقال بعضُهم: لا يتَكَرَّرُ؛ لأنَّ في إيجابِ


(٣٧) سقط من: ب.
(٣٨) أخرج عبد الرزاق لفظ: تقطع يد السارق في ربع دينار، في: باب في كم تقطع يد السارق، من كتاب اللقطة. المصنف ١٠/ ٢٣٥. وأخرج ابن أبي شيبة لفظ: القطع في ربع دينار فصاعدا، في: باب في السارق من قال: يقطع في أقل من عشرة دراهم، ولفظ: لم يكن القطع على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الشيء التافه، في: باب من قال: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم، كلاهما في كتاب الحدود. المصنف ٩/ ٤٧٠، ٤٧٦، ٤٧٧. ويأتي الحديث في صفحة ٤١٥.
(٣٩) في ب، م: "كذلك".

<<  <  ج: ص:  >  >>