للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبينَ اللهَ تعالى؛ لأنَّه نطَقَ بكلمةِ الكُفْرِ، فأشْبَهَ المُختارَ. ولَنا، قولُ اللَّه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (٢٢). ورُوِىَ أنَّ عَمَّارًا أخذَه المشركون، فضربُوه حتى تكلَّمَ بما طلبُوا منه، ثم أتَى النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو يَبْكِى، فأخبرَه، فقال له النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ عَادُوا فَعُدْ" (٢٣). ورُوِىَ أنَّ الكُفَّارَ كانوا يُعَذِّبُونَ المسْتَضْعَفِينَ من المؤمِنين، فما منهم أحدٌ إلَّا أجابَهم، إلا بلالًا (٢٤)، فإنَّه كان يقولُ: أَحَدٌ. أَحدٌ (٢٥). وقال النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُفِىَ لِأُمَّتِى عَنِ الْخَطَإِ والنِّسْيَانِ، وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (٢٦). ولأنَّه قولٌ أُكْرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه، كما لو أُكْرِهَ على الإِقْرَارِ، وفارقَ ما إذا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، فإنَّه خُيِّرَ بينَ أَمْرَيْنِ يلزمُه أحدُهما، فأيَّهما اختارَه ثبتَ حكمُه في حقِّه. فإذا ثبتَ أنَّه لم يَكْفُرْ، فمتى زالَ عنه الإِكْراهُ، أُمِرَ بإظهارِ إسلامِه، فإن أظْهرَه فهو بَاقٍ عَلَى إسلامِه، وإن أظهرَ الكُفْرَ حُكِمَ أنَّه كَفَرَ من حينَ نَطَقَ به؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا بذلك أنَّه كانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بالكُفْرِ من حينَ نَطَقَ به، مُخْتارًا له, وإن قامتْ عليه بَيِّنَةٌ أنَّه نطقَ بكلمةِ الكُفْرِ، وكان محبوسًا عندَ الكُفَّارِ، أو مُقَيَّدًا (٢٧) عندَهم في حالةِ خوفٍ، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه؛ لأنَّ ذلك ظاهرٌ في الإِكْراهِ. وإن شَهِدَتْ أنَّه كان آمِنًا حالَ نُطْقهِ به، حُكِمَ بِرِدَّتِه. فإن ادَّعَى ورثتُه رُجوعَه إلى الإِسلام، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ الأصلَ بَقاؤُه على ما هو عليه. وإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ عليه بأكْلِ لحمِ الخِنْزِيرِ، لم يُحْكَمْ بِرِدَّتِه؛ لأنَّه قد يأكلُه مُعْتَقِدًا تَحْريمَه، كما يشربُ الخمرَ مَن يعتقدُ تَحْريمَها. وإن قال بعضُ ورثتِه: أكلَه مُسْتَحِلًّا له. أو أَقَرَّ بِرِدَّتِه، حُرِمَ مِيرَاثَه؛ لأنَّه مُقِرٌّ بأنَّه لا يَسْتَحِقُّه، ويُدْفَعُ إلى مُدَّعِى إسْلامِه قَدْرُ ميراثِه؛


(٢٢) سورة النحل ١٠٦.
(٢٣) تقدم تخريجه، في: ١٠/ ٣٥٢.
(٢٤) في م: "بلال".
(٢٥) أخرجه البيهقي، في: باب المكره على الردة، من كتاب المرتد. السنن الكبرى ٨/ ٢٠٩. وانظر: السيرة النبوية ١/ ٣١٧, ٣١٨.
(٢٦) تقدم تخريجه، في: ١/ ١٤٦.
(٢٧) في ب: "مقيدا". وفي م: "ومقيدا".

<<  <  ج: ص:  >  >>