للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالحاكمُ مُخيَّرٌ بينَ إحْضارِهم والحكمِ بينَهم، وبينَ تركِهم، سواءٌ كانوا من أهلِ دينٍ واحدٍ، أو من أهلِ أدْيانٍ. هذا المَنصوصُ عن أحمدَ. وهو قولُ النَّخَعِىِّ، وأحَدُ قَوْلَىِ الشَّافِعِىُّ. وحَكَى أبو خَطَّابٍ، عن أحمدَ، رِوايةً أُخْرَى، أنَّه يجبُ الحكمُ بينهم. وهذا القولُ الثاني للشَّافِعِىِّ، واخْتيارُ المُزَنِىِّ؛ لقولِ اللَّه تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (٣). ولأنَّه يَلْزَمُه دَفْعُ مَن قَصَدَ واحدًا منهما بغيرِ حَقٍّ، فَلزِمَه الحكمُ بينَهما، كالمُسْلِمَيْن. ولَنا، قولُ اللَّه تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (٤). فخيَّره بين الأمْرَيْن، ولا خلافَ في أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في مَن وادَعَه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من يَهُودِ المدينةِ، ولأنَّهما كافرانِ، فلا يجبُ الحكْمُ بينَهما كالمُعاهَدَيْن، والآيةُ التي احْتَجُّوا بها محمولةٌ على مَن اخْتارَ الحكمَ بينهم؛ لقولِه تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (٤). جَمْعًا بينَ الآيَتَيْن، فإنَّه لا يُصارُ إلى النَّسْخِ مع إمْكانِ الجمعِ. فإذا ثبتَ هذا، فإنَّه إذا حَكَمَ بينَهم، لم يَجُزْ له الحُكْمُ إلَّا بحُكمِ الإِسلامِ؛ للآيتَيْنِ، ولأنَّه لا يجوزُ له الحكمُ، إلَّا بالقِسْطِ، كما في حَقِّ المسلمين، ومتى حَكَمَ بينهما، ألزمَهُما حُكْمَه، ومن امْتَنعَ منهما، أجْبَره على قَبولِ حُكْمِه، وأخذَه به؛ لأنَّه إنَّما دخلَ في العَهْدِ بَشرْطِ الْتزامِ أحْكامِ الإِسلامِ. قال أحمدُ: لا يُبْحَثُ عن أمرِهم، ولا يُسْأَلُ عن أمرِهم، إلَّا أن يأتُوهم، فإن ارْتفَعُوا إلينا، أَقَمْنَا عليهم الحَدَّ، على ما فعلَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال أيضًا: حُكْمُنَا يلْزَمُهم، وحُكْمُنا جائِزٌ على جميعِ المِلَلِ، ولا يَدْعُوهما الحاكمُ، فإنَّ جاءُوا، حكَمْنَا بحُكْمِنَا. إذا ثبتَ هذا، فإنَّه إِذا رُفِعَ إلى الحاكمِ مِنْ أهلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، يُوجِبُ عقوبةً، ممَّا هو مُحَرَّمٌ عليهم في دينِهم، كالزِّنَى، والسَّرِقَةِ، والقَذْفِ، والقَتْلِ، فعليه إقامةُ حَدِّه عليه؛ فإنْ كانَ زِنًى جُلِدَ إنْ كانَ بِكرًا وغُرِّبَ عامًا، وإن كان مُحْصَنًا، رُجِمَ؛ لما رَوَى ابنُ عمرَ، أنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-


(٣) سورة المائدة ٤٩.
(٤) سورة المائدة ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>