للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أصحابُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبارِزُونَ في عصرِ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وبَعْدَه، ولم يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فكانَ ذلك إِجْماعًا، وكان أبو ذَرٍّ يُقْسِمُ أنَّ قولَه تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (١١). نزَلتْ في الذين تبارَزُوا يومَ بَدْرٍ، وهم حَمْزَةُ وعَلِىّ وعُبَيْدَةُ، بارَزُوا عُتْبَة وشَيْبَةَ والوَلِيدَ بنَ عُتْبَة (١٢)، وقال أبو قَتادَة: بارَزْتُ رجُلًا يومَ حُنَيْنٍ، فقَتَلْتُه (١٣). إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه يَنْبَغِى أنْ يُسْتَأْذَنَ الأميرُ في المُبارَزَةِ إذا أمْكَنَ. وبه قال الثَّوْرِىُّ، وإسْحاقُ، ورَخَّصَ فيها مالِكٌ، والشافِعِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لِخَبَرِ أبى قَتادَةَ، فإنَّه لم يُعْلَمْ أنَّه اسْتَأْذَنَ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك أكثرُ من حَكَيْنا عَنْهُم المُبارَزَةَ، لم يُعْلَمْ منهم اسْتِئْذانٌ. ولَنا، أنَّ الإِمامَ أعلمُ بفُرْسانِه وفُرْسانِ العدوِّ (١٤)، ومَتَى برَزَ الإِنسانُ إلى مَن لا يُطيقُه، كان مُعَرِّضًا نفْسَه للهَلاكِ، فيكْسِرُ قلوبَ المسلمين، فينْبَغِى أنْ يُفَوَّضَ ذلك إلى الإِمامِ، ليخْتارَ للمُبارَزَةِ مَنْ يَرْضاهُ لها، فيكونَ أقْرَبَ إلى الظَّفَرِ، وجَبْرِ قُلوبِ المُسْلِمين، وكسْرِ قُلوبِ المُشْركِين. فإنْ قيل: فقد أبَحْتُم له أنْ ينْغَمِسَ في الكُفَّارِ، وهو سَبَبٌ لقَتْلِه. قُلْنا: إذا كان مُبارِزًا تعلَّقَت قلوبُ الجيشِ به، وارْتَقَبُوا ظَفَرَهُ، فإنْ ظَفِرَ جَبَرَ قلوبَهم، وسَرَّهُم، وكسرَ قلوبَ الكفّارِ، وإنْ قُتِلَ كان بالعكسِ، والمُنْغَمِسُ يطْلبُ الشَّهادَةَ، لا يُتَرَقَّبُ منه ظَفَرٌ ولا مُقاوَمَةٌ، فافْتَرقا. وأمَّا مُبارَزَةُ أبى قَتادَة فغَيْرُ لازِمَةٍ، فإنَّها كانَتْ بعدَ الْتِحامِ الحربِ، رأَى رجُلًا يُريدُ أنْ يقتلَ مُسْلِمًا، فضَرَبَه أبو قتادَة، فالْتَفَت إلى أبى قَتَادَةَ، فضَمَّه ضَمَّةً كاد يَقْتُلُه. وليس هذا هو المُبارزَةُ المُخْتَلَفُ فيها، بل المُخْتَلَفُ فيها أن يَبْرُزَ رجلٌ بين الصَّفَّيْن قبلَ الْتحامِ الحَرْبِ، يدْعُو إلى المُبارَزَةِ، فهذا هو الذي يُعْتَبَرُ له إذْنُ الإِمامِ، لأنَّ عينَ الطائِفَتَيْن تَمْتَدُّ إلَيْهما، وقُلوبَ الفَرِيقَيْن تَتَعَلَّقُ بهما، وأيُّهما غَلَبَ سَرَّ أصْحابَه، وكسَرَ قلوبَ أعدائِه، بخلافِ غَيْرِه.


(١١) سورة الحج ١٩.
(١٢) انظر حاشية ٣ السابقة.
(١٣) حديث أبى قتادة يأتى بتمامه، في المسألة رقم ١٦٣٩. ويأتى تخريجه هناك. وهو بهذا اللفظ عند عبد الرزاق، في: باب السلب والمبارزة، من كتاب الجهاد. المصنف ٥/ ٢٣٦.
(١٤) في أ: "عدوه".

<<  <  ج: ص:  >  >>