للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأرادَ بها، لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ من بَلَدٍ قد فُتِحَ. وقَوْلُه لِصَفْوانَ: "إنَّ الهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ". يَعْنِى من مَكَّة؛ لأنَّ الهِجْرَةَ الخروجُ من بَلَدِ الكُفَّارِ، فإذا فُتِحَ لم يَبْقَ بلدَ الكُفَّارِ، فلا تَبْقَى منه هِجْرَةٌ. وهكذا كُلّ بَلَدٍ فُتِحَ لا يَبْقَى منه هِجْرَةٌ، وإنَّما الهِجْرَةُ إليه. إذا ثَبَتَ هذا، فالناسُ فى الهِجْرَةِ على ثلاثَةِ أضْرُب؛ أحدُها، مَنْ تَجِب عليه، وهو مَنْ يَقْدِرُ عليها، ولا يُمْكِنُه إظْهارُ دِينهِ، أوْ لا (٢٤) تُمْكِنُه إقامَةُ واجباتِ دِينهِ مع المُقامِ بينَ الكُفَّارِ، فهذا تَجِبُ عليه الهِجْرَةُ؛ لقولِ اللَّه تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وهذا وَعِيدٌ شديدٌ يَدُلُّ على الوُجوبِ. ولأَنَّ القيامَ بواجِبِ دِينهِ واجِبٌ على مَنْ قَدَرَ عليه، والهِجْرَةُ من ضَرُورَةِ الواجِبِ وتَتِمَّتِه، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو (٢٥) واجِبٌ. الثاني؛ مَنْ لا هِجْرَةَ عليه. وهو مَنْ يَعْجِزُ عَنْها، إمَّا لمرَضٍ، أو إكراهٍ على الإِقامَةِ، أو ضَعْفٍ؛ من النِّساءِ والوِلْدَانِ وشِبْهِهِم، فهذا لا هِجْرَةَ عليه؛ لقَوْلِ اللَّه تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (٢٦). ولا تُوصَفُ باسْتِحْبابٍ؛ لأنَّها غيرُ مَقْدُورٍ عليها. والثالثُ، مَنْ تُسْتَحَبُّ له، ولا تَجِبُ عليه. وهو مَنْ يَقْدِرُ عليها، لكِنَّه يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهارِ دِينهِ، وإقامَتِه فى دارِ الكُفْرِ (٢٧)، فتُسْتَحَبُّ له، ليتَمَكَّنَ من جهادِهم، وتكْثيرِ المسلمين، ومَعُونَتِهم، وَيَتَخَلَّصَ من تَكْثِيرِ الكُفَّارِ، ومُخالَطَتِهم، ورُؤْيةِ المُنْكَرِ بينَهم. ولا تَجِبُ عليه، لإِمْكانِ إِقامَةِ واجِبِ دينهِ بدُونِ الهِجْرَةِ. وقد كان العبَّاسُ عَمُّ النّبِىِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقِيمًا بمكَّةَ مع إسْلامِه (٢٨). ورَوَيْنا أنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ، حين أرادَ أنْ يُهاجِرَ، جاءَه قومُه بنو عَدِىٍّ، فقالوا له: أقِمْ عندَنا، وأَنْتَ على دِينِكَ، ونحن نَمْنَعُك ممَّنْ يُرِيدُ


(٢٤) فى أ، م: "ولا".
(٢٥) سقط من: أ.
(٢٦) سورة النِّساء ٩٨، ٩٩.
(٢٧) فى ب: "الكفار".
(٢٨) هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح. انظر الإصابة ٣/ ٦٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>