للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقْدَمَ تاريخًا، قُدِّمَتْ، وإلا قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ المُدَّعِى. وهو قول أبى حنيفةَ وأبى ثَوْرٍ، فى النِّتاجِ والنِّساجِ، فيما لا يتكرَّرُ نَسْجُه، فأمَّا ما يتكَرَّرُ نسْجُه، كالصُّوفِ والخَزِّ، فلا تُسْمَعُ بَيِّنَتُه؛ لأنَّها إذا شَهِدتْ بالسَّبَبِ، فقد أفادَتْ ما لا تُفِيدُه اليَدُ، وقد رَوَى جابرُ بنِ عبد اللَّه، أَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اخْتَصَمَ إليه رجُلان فى دَابةٍ أو بَعيرٍ، فأقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ منهما البَيِّنَةَ بأنَّها له، أنْتَجَها، فقضَى بها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للذى هى فى يَدِه (٥). وذكرَ أبو الخَطَّاب، روايةً ثالثةً، أَنَّ بَيِّنَةَ المُدَّعَى عليه تُقَدَّمُ بكلِّ حالٍ. وهو قولُ شُرَيْحٍ، والشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، والحَكَمِ، والشَّافِعىِّ، وأبى عُبَيْد. وقال: هو قولُ أهْلِ المدينة، وأهْلِ الشَّام. ورُوِى ذلك (٦) عن طاوُسٍ. وأنْكَرَ القاضى كَوْنَ هذا روايةً عن أحمدَ، وقال: لا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إذا لم تُفِدْ إِلَّا ما أفادَتْه يَدُه، روَايةً وَاحِدَةً. واحْتَجَّ مَنْ ذهبَ إلى هذا القَوْلِ بأنَّ جَنَبَةَ المُدَّعَى عليه أقْوَى؛ لأنَّ الأصْلَ معه، ويَمِينُه تُقَدَّمَ على يَمِينِ المُدَّعِى، فإذا تعارَضَتِ البَيِّنَتَان، وَجَبَ إبْقاءُ يَده على ما فيها، وتَقْدِيمُه، كما لو لمْ تكُنْ بَيِّنَةٌ لواحِدٍ منهما. وحديثُ جابر يدُلُّ على هذا، فإنَّه إنَّما قُدِّمَتْ (٧) بَيِّنَتَهُ لِيَدِه. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى، والْيَمِينُ على المُدَّعَى علَيْهِ" (٨). فجعَلَ جنْسَ البَيِّنةِ فى جَنَبَةِ المُدَّعِى، فلا يبْقَى فى جَنَبَةِ المُدَّعَى عليه بَيِّنَةٌ، ولأنَّ بَيِّنةَ المُدَّعِى أكثرُ فائِدَة، فوَجَبَ تقْدِيمُها، كتقْدِيمِ بَيِّنَةِ الجَرْحِ على التَّعْدِيلِ. ودليلُ كثرَةِ فائدَتِها، أنَّها تُثْبت شيئًا لم يكُنْ، وبَيِّنَةُ المُنْكِرِ إنَّما تُثْبِتُ ظاهِرًا تدُلُّ اليَدُ عليه، فلم تَكُنْ مُفِيدَةً، ولأنَّ الشَّهادةَ بالمِلْكِ يجُوزُ أَنْ يكونَ مُسْتَنَدُها رُؤْيَةَ اليَدِ والتَّصَرُّف، فإنَّ ذلك جائِزٌ عندَ كَثيرٍ من أهْلِ العِلْمِ، فصارَتِ البَيِّنَةُ بمنْزِلَة اليَدِ المُفْرَدَةِ، فتقدَّمَ عليها بَيِّنَةُ المُدَّعِى، كما تُقَدَّمَ على اليَدِ، كما أَنَّ شاهِدَىِ الفَرْعِ لمَّا كانا مَبْنِيَّيْن على شَاهِدَى الأَصْلِ، لم تكُنْ لهُما مَزِيَّةٌ عليهما.


(٥) أخرجه البيهقى، فى: باب المتداعيين يتنازعان. . .، من كتاب الدعاوى والبينات. السنن الكبرى ١٠/ ٢٥٦. والدارقطنى، فى: كتاب فى الأقضية والأحكام وغير ذلك. سنن الدارقطنى ٤/ ٢٠٩. والإمام الشافعى، انظر: كتاب الأحكام والأقضية، من ترتيب المسند ٢/ ١٨٠.
(٦) سقط من: م.
(٧) فى أ: "قدم".
(٨) تقدم تخريجه، فى حاشية: ٦/ ٥٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>