للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عاقِلٍ، فلم يَصِحّ إقْرَارُه، كالمَجْنُونِ الذي سَبَّبَ جُنُونَهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، ولأنَّ السَّكْرَانَ لا يُوثَقُ بِصِحَّةِ ما يقولُ، ولا تَنْتَفِى عنه التُّهْمَةُ فيما يُخْبِرُ به، فلم يُوجَدْ مَعْنَى الإِقْرَارِ المُوجِبِ لِقَبُولِ قَوْلِه. وأمَّا المُكْرَهُ فلا يَصِحُّ إقْرَارُه بما أُكْرِهَ على الإِقْرَارِ به. وهذا مذهبُ الشّافِعِىَّ؛ لقولِ رَسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِى الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (١١). ولأنَّه قَوْلٌ أُكْرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَصِحَّ، كالبَيْعِ. وإن أقَرَّ بغيرِ ما أُكْرِه عليه، مثل أن يُكْرَهَ على الإِقْرَارِ لِرَجُلٍ، فأقَرَّ لغيرِه، أو بِنَوْعٍ من المالِ، فيُقِرَّ بغيرِه، أو على الإِقْرَارِ بطَلَاقِ امْرَأةٍ، فأَقَرَّ بطَلَاقِ أُخْرَى، أو أقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ، صَحَّ؛ لأنَّه أقَرَّ بما لم يُكْرَهْ عليه، فصَحَّ، كما لو أقَرَّ به ابْتِدَاءً. ولو أُكْرِهَ على أدَاءِ مالٍ، فبَاعَ شيئا من مالِه ليُؤَدِّىَ ذلك، صَحَّ بَيْعُه. نَصَّ عليه؛ لأنَّه لم يُكْرَهْ على البَيْعِ. ومن أقَرَّ بحَقٍّ، ثم ادَّعَى أنَّه كان مُكْرَهًا، لم يُقْبَلْ قَوْلُه إلَّا بِبَيِّنَةٍ، سواءٌ أقَرَّ عند السُّلْطانِ أو عندَ غيرِه؛ لأنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الإِكْرَاهِ، إلَّا أن يكونَ هناك دَلَالَةٌ على الإِكْرَاهِ، كالقَيْدِ والحَبْسِ والتَّوْكِيلِ (١٢) به، فيكونُ القولُ قولَه مع يَمِينهِ؛ لأن هذه الحال تَدُلُّ على الإِكْرَاهِ. ولو ادَّعَى أنَّه كان زائِلَ العَقْلِ حال إِقْرَارِه، لم يُقْبَلْ قَوْلُه إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ الأَصْلَ السَّلَامَةُ حتى يُعْلَمَ غيرُها. ولو شَهِدَ الشُّهُودُ بإِقْرَارِه، لم تَفْتَقِرْ صِحَّةُ الشَّهَادةِ إلى أن يَقُولُوا طَوْعًا في صِحَّةِ عَقْلِه؛ لأنَّ الظاهِرَ سَلَامَةُ الحالِ وصِحَّةُ الشَّهَادَةِ. وقد ذَكَرْنا حُكْمَ إِقْرَارِ السَّفِيهِ والمُفْلِسِ والمَرِيضِ في أبْوابِه. وأمَّا العَبْدُ فيَصِحُّ إقْرَارُه بالحَدِّ والقِصَاصِ فيما دون النَّفْسِ؛ لأنَّ الحَقَّ له دُون مَوْلَاهُ. ولا يَصِحُّ إقْرَارُ المَوْلى عليه؛ لأنَّ المَوْلَى لا يَمْلِكُ من العَبْدِ إلَّا المالَ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ إقْرَارُ المَوْلَى عليه بما يُوجِبُ القِصاصَ، ويَجِبُ المالُ دُونَ القِصاصِ؛ لأنَّ المالَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِه، وهى مالُ السَّيِّدِ، فصَحَّ إقْرَارُه به، كجِنايَةِ الخَطَإِ. وأمَّا إقْرَارُه بما يُوجِبُ القِصَاصَ في النَّفْسِ، فالمَنْصُوصُ عن أحمدَ أنَّه لا يُقْبَلُ، ويُتْبَعُ به بعدَ العِتْقِ. وبه قال زُفَرُ، والمُزَنِىُّ، ودَاوُدُ، وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِىّ؛ لأنَّه يُسْقِطُ حَقَّ سَيِّدِه بإقْرَارِه، فأَشْبَهَ الإِقْرَارَ بقَتْلِ الخَطَإِ، ولأنَّه مُتَّهَمٌ في أنَّه


(١١) تقدم تخريجه في: ١/ ١٤٦.
(١٢) في م: "والتنكيل". ووكَّل به، أي ألزمه من يؤذيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>