للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأَرْضِ وأَرْشَ نَقْصِها، وبين أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه ويكونَ الزَّرْعُ له. وبهذا قال أبو عُبَيْدٍ. وقال أكْثَرُ الفُقَهاءِ: يَمْلِكُ إِجْبَارَ الغاصِبِ على قَلْعِه، والحُكْمُ فيه كالغَرْسِ سواء، لقولِه عليه السَّلَامُ: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ" (٢). ولأنَّه زَرَعَ في أَرْضِ غيرِه ظُلْمًا، أشْبَه الغِرَاسَ. ولَنا، ما رَوَى رافِعُ بن خَدِيِجٍ قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَىْءٌ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ". رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِىُّ (٣)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فيه دَلِيلٌ على أنَّ الغاصِبَ لَا يُجْبَرُ على قَلْعِه؛ لأنَّه مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ منه. ورُوِىَ أنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى زَرْعًا في أرضِ ظُهَيْرٍ (٤)، فأعْجَبَه، فقال: "مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ". فقال: إنَّه ليس لِظُهَيْرٍ، ولكنَّه لفلان. قال: "فَخُذُوا زَرْعَكُمْ، ورُدُّوا عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ" قال رافِع: فأخَذْنا زَرْعَنا، ورَدَدْنَا عليه نَفَقَتَه (٥). ولأنَّه أمْكَنَ رَدُّ المَغْصُوبِ إلى مالكِه منٍ غيرِ إتْلافِ مالِ الغاصِبِ، على قُرْبٍ من الزَّمانِ، فلم يَجُزْ إتْلافُه، كما لو غَصَبَ سَفِينةً، فحمَل فيها مالَهُ. وأدْخَلَها البحرَ، أو غَصَب لَوْحًا. فرَقَّع به سَفِينةً، فإنَّه لا يُجْبَرُ على رَدِّ المغْصُوبِ في اللُّجَّةِ، ويُنْتَظَرُ حتى تُرْسَى، صِيانةً للمالِ عن التَّلَفِ. كذا ههُنا. ولأنَّه زرعٌ حصَل في مِلْكِ غيرِه، فلم يُجْبَرْ على قَلْعِه على وَجْهٍ يضُرُّ به. كما لو كانتِ الأرضُ مُسْتعارَةً أو مَشْفُوعةً. وفارَق الشَّجَرَ والنَّخْلَ؛ لأنَّ مُدَّتَه تَتَطاوَلُ، ولا يُعْلَمُ متى يَنْقَطِعُ من الأرضِ، فانْتِظارُه يُؤَدِّى إلى تَرْكِ رَدِّ الأصلِ بالكُلِّيَّةِ. وحَدِيثُهم وَرَدَ في الغَرْسِ، وحَدِيثُنا في الزَّرْعِ، فيُجْمَعُ بين الحديثَيْنِ، ويُعْمَلُ بكلِّ واحدٍ منهما في مَوْضعِه. وذلك أوْلَى مِن إبْطَالِ أحَدِهما. إذا


(٢) تقدم تخريجه في: ٦/ ٥٥٨.
(٣) أخرجه أبو داود، في: باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود ٢/ ٢٣٤. والترمذي، في: باب ما جاء في من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي ٦/ ١٢٥.
كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه ٢/ ٨٢٤. والإِمام أحمد، في: المسند ٣/ ٤٦٥.
(٤) في م هنا وفيما يأتي: "طهير".
(٥) أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في ذلك [المزارعة]، من كتاب البيوع. سنن أبي داود ٢/ ٢٣٣، ٢٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>