للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن إلْحاقِ النَّسَبِ، فإنَّ الحَدَّ في الزِّنَى لا يَثْبُتُ إلَّا بأَقْوَى البَيِّناتِ، وأكْثَرِها عَدَدًا، وأقْوَى الإِقْرارِ، حتى يُعْتَبَرَ فيه تَكْرَارُه أرْبَعَ مَرّاتٍ، ويُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، والنَّسَبُ يَثْبُتُ بشهَادَةِ امْرَأةٍ واحِدَةٍ على الوِلَادةِ، ويَثْبُتُ بمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، ويَثْبُتُ مع ظُهُورِ انْتِفائِه, حتى لو أن امْرَأةً أتَتْ بوَلَدٍ وزَوْجُها غائِبٌ عنها منذ عِشْرِينَ سَنة، لَحِقَه وَلَدُها، فكيف يحْتَجُّ على نَفْيِه بعَدَمِ إقَامةِ الحَدِّ! ولأنَّه حَكَمَ بِظَنٍّ غالِبٍ، ورَأْىٍ راجِحٍ، ممَّن هو من أهْلِ الخِبْرةِ، فجاز، كَقَوْلِ المُقَوِّمِينَ. وقولُهم: إنَّ الشَّبَه يجوزُ وُجُودُه [وعَدَمُه. قُلْنا: الظاهِرُ وُجُودُه] (٣٥)، ولهذا قال: النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قالت أُمُّ سَلَمةَ: أو تَرَى ذلك المَرْأَة؟ قال: "فَمِنْ أيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ " (٣٦). والحَدِيثُ الذي احْتَجُّوا به حُجَّةٌ عليهم؛ لأنَّ إنْكارَ الرَّجُلِ وَلَدَه لمُخَالَفَةِ لَوْنِه، وعَزْمَهُ على نَفْيِه لذلك، يَدُلُّ على أنَّ العادَةَ خِلَافُه، وأنَّ في طِبَاعِ الناسِ إنْكَارَه، وأنَّ ذلك إنَّما يُوجَدُ نادِرًا، وإنَّما ألْحَقَه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- به لِوُجُودِ الفِرَاشِ، وتَجُوزُ مُخَالَفةُ الظاهِرِ لِدَلِيلٍ، ولا يجوزُ تَرْكُه من غير دَلِيلٍ، ولأنَّ ضَعْفَ الشَّبَه عن نَفْىِ النَّسَبِ لا يَلْزَمُ منه ضَعْفُه عن إثْبَاتِه، فإنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لإِثْباتِه، ويَثْبُتُ بأدْنَى دَلِيلٍ، ويَلْزَمُ من ذلك التَّشْدِيدُ في نَفْيِه، وأنَّه لا يَنْتَفِى إلَّا بأقْوَى الأَدِلَّةِ، كما أنَّ الحَدَّ لَمَّا انْتَفَى بالشَّبَهِ، لم يَثْبُتْ إلَّا بأَقْوَى دَلِيلٍ، فلا يَلْزَمُ حينئذٍ من المَنْعِ من نَفْيِه بالشَّبَهِ في الخَبَرِ المَذْكُورِ، أن لا يَثْبُتَ به النَّسَبُ في مَسْأَلَتِنا. فإن قيل: فههُنا إن عَمِلْتُم بالقَافَةِ فقد نَفَيْتُم النَّسَبَ عمَّن لم تُلْحِقْه القافَةُ به. قُلْنا: إنَّما انتفَى النَّسَبُ ههُنا لِعَدَمِ دَلِيلِه؛ لأنَّه لم يُوجَدْ إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، وقد عارَضَها مثلُها، فسَقَطَ حُكْمُها، وكان الشَّبَهُ مُرَجِّحًا لأَحَدِهِما، فانْتَفَتْ دَلَالَةٌ أخرى، فلَزِمَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ لِانْتِفاءِ دَلِيلِه، وتَقدِيمُ اللِّعَانِ عليه لا يَمْنَعُ العَمَلَ به عندَ عَدَمِه، كاليَدِ تُقَدَّمُ عليها البَيِّنةُ، ويُعْمَلُ بها.


(٣٥) سقط من: الأصل.
(٣٦) تقدم تخريجه في: ١/ ٢٦٥. ويضاف إليه: وأخرجه البخاري، في: باب الحياء في العلم، من كتاب العلم، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، من كتاب الأنبياء. صحيح البخاري ١/ ٤٤، ٤/ ١٦٠. والإِمام أحمد، في: المسند ٦/ ٢٩٢، ٣٠٦، ٣٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>