للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على أنّ الوَصِيَّةَ غيرُ واجِبَةٍ، إلَّا على مَنْ عليه حُقُوقٌ بغير بَيِّنةٍ، وأمانةٍ بغير إشْهادٍ، إلَّا طائِفَةً شَذَتْ فأوجَبَتْها. رُوِى عن الزُّهْرِىِّ أنَّه قال: جَعَلَ اللهُ الوَصِيَّةَ حَقًّا ممَّا قَلَّ أو كَثُرَ. وقِيلَ لأبِى مِجلَزٍ: على كل مَيِّتٍ وَصِيَّةٌ؟ قال: إن تَرَكَ خَيْرًا. وقال أبو بَكرِ عبدُ العَزِيزِ: هي واجِبَةٌ للأَقْرَبِينَ الذين لا يَرِثُونَ. وهو قول دَاوُدَ. وحُكِى ذلك عن مَسْرُوقٍ، وطاوُسٍ، وإِيَاسٍ، وقَتَادَةَ، وابنِ جَرِيرٍ. واحْتَجُّوا بالآيةِ، وخَبَرِ ابنِ عمرَ، وقالوا: نُسِخَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ الوارِثِينَ، وبَقِيَتْ في مَن لا يَرِثُ من الأَقْرَبِينَ. ولَنا، أنَّ أكْثَرَ أصْحابِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُنْقَلْ عنهم وَصِيّةٌ، ولم يُنْقَلْ لذلك نَكِيرٌ، ولو كانت واجِبَةً لم يُخِلُّوا بذلك، ولَنُقِلَ عنهم نَقلًا ظاهِرًا، ولأنها عَطِيّةٌ لا تَجِبُ في الحيَاةِ، فلا تَجِبُ بعدَ المَوْتِ كعَطِيّةِ الأجَانِبِ. فأمَّا الآيةُ، فقال ابنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَها قولُه سُبْحانه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (١١). وقال ابنُ عمرَ: نَسَخَتها آيةُ المِيرَاثِ. وبه قال عِكْرِمَةُ، ومُجَاهِدٌ، ومالِكٌ، والشّافِعِىُّ. وذهبتْ طائِفَةٌ ممَّن يَرَى نَسْخَ القُرْآنِ بالسُّنَّةِ، إلى أنَّها نُسِخَتْ بقولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ قَدْ أعْطى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّه، فَلَا وَصَيَّةَ لِوَارِثٍ". وحَدِيثُ ابن عمرَ مَحْمُولٌ على مَنْ عليه واجِبٌ، أو عندَهُ وَدِيعَةٌ.

فصل: وتُسْتَحَبُّ الوَصِيَّةُ بجُزْءٍ من المالِ لمن تَرَكَ خَيْرًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}. فنُسِخَ الوُجُوبُ، وبَقِىَ الاسْتِحْبَابُ في حَقِّ مَنْ لا يَرِثُ. وقد رَوَى (١٢) ابنُ عمرَ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا ابْنَ آدَمَ، جَعَلْتُ لَكَ نَصِيبًا مِنْ مالِكَ حِينَ أخَذْتُ بِكَظَمِكَ (١٣)، لِأُطَهِّرَكَ وأُزَكِّيَكَ". وعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه تَصَدَّقَ


(١١) سورة النساء ٧.
(١٢) في م زيادة: "عن".
(١٣) الكظم: مخرج النفس.

<<  <  ج: ص:  >  >>