للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفَرّاءُ، وثعلبٌ، وابنُ قُتَيْبةَ، لقولِ اللَّه تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (٢). وهو المَطْرُوحُ على التُّرابِ لشِدَّةِ حاجَتِه، وأنَشدُوا (٣):

أمَّا الفَقِيرُ الذى كانتْ حَلُوَبتُهُ ... وَفْقَ العِيَالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ (٤)

فأخْبَرَ أَنَّ الفَقِيرَ حَلُوبَتُه وَفْقَ عِيالِه. ولَنا، أَنَّ اللَّه تعالى بدَأ بالفقراءِ، فيدُلُّ على أنَّهم أهَمُّ، وقال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ} (٥). فأخْبَرَ أن المساكينَ لهم سفينةٌ يعملونَ بها. ولأنَّ النَّبِىَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مِسْكِينًا، وأَمِتْنِى مِسْكِينًا، واحْشُرْنِى فِى زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ" (٦). وكان يَسْتَعِيذُ من الفقرِ، ولا يجوزُ أن يَسْألَ اللَّه تعالى شِدَّةَ الْحاجةِ، ويَسْتَعِيذَ من حالةٍ أصْلَحَ منها. ولأنَّ الفَقْرَ مُشْتَقٌّ من فِقَرِ الظَّهْرِ، فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ، أى مَفْقُودٌ، وهو الذى نُزِعَتْ (٧) فِقْرَةُ ظَهْره، فانْقَطَع صُلْبُه (٨). قال الشاعر (٩):

لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورَ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ القَوَادِمَ كالفَقِيرِ الأَعْزَلِ (١٠)

أى لم يُطِق الطيرانَ، كالذى انْقَطَعَ صُلْبُه. والمِسْكِينُ (١١) مِفْعِيلٌ من السُّكُونِ، وهو الذى أسْكَنَتْه الحاجةُ، ومَنْ كُسِرَ صُلْبُه أشَدُّ حالًا من الساكنِ. فأمَّا الآيةُ فهى حُجّةٌ لنا، فإنَّ نَعْتَ اللَّه تعالى للمِسْكِينِ بكَوْنِه ذا مَتْرَبةٍ، يدلُّ على أَنَّ هذا النَّعْتَ لا يَسْتَحِقُّه بإِطْلاقِ اسْمِ الَمَسْكَنةِ، كما يقال: ثَوْبٌ ذو عَلَم. ويجوزُ التعبيرُ بالمسْكِينِ عن


(٢) سورة البلد ١٦.
(٣) البيت للراعى النميرى، وهو فى ديوانه ٥٥.
(٤) السبد: القليل من الشّعَر. وماله سبد ولا لبد، محركتان، أى لا قليل ولا كثر.
(٥) سورة الكهف ٧٩.
(٦) أخرجه الترمذى، فى: باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذى ٩/ ٢١٣. وابن ماجه، فى: باب مجالسة الفقراء، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه ٢/ ١٣٨١.
(٧) فى النسخ: "يرعب" تصحيف وتحريف.
(٨) فى أ، م: "صاحبه".
(٩) هو لبيد بن ربيعة العامرى. ديوانه ٢٧٤.
(١٠) لبد: هو السابع من نسور لقمان بن عاد. معمر جاهلى قديم، زعموا أنه عاش عمر سبعة نسور.
(١١) فى ب، م: "والسكين".

<<  <  ج: ص:  >  >>