للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلا قَوَدَ فيه ولا دِيَةَ؛ لأنَّ هذا الفعلَ لم يَقْتُلْه، وإنَّما حَصَلَ موتُه بلُبْثِه فيه، وهو فِعْلُ نَفْسِه، فلم يَضْمَنْه غيرُه. وإن تَرَكه في نارٍ يُمْكِنُه التَّخلُّصُ منها لقِلَّتِها، أو كَوْنِه في طَرَفٍ منها يُمْكِنُه الخُروجُ بأدْنَى حَرَكة؛ فلم يَخْرُجْ حتى مات، فلا قَوَدَ؛ لأنَّ هذا لا يَقْتُلُ غالبًا، وهل يَضْمَنُه؟ فيه وَجْهان؛ أحدهما، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه مُهْلِكٌ لنَفْسِه بإقامَتِه، فلم يَضْمَنْه، كما لو ألْقاهُ في ماءٍ يسيرٍ، لكنْ (٣٣) يضْمَنُ ما أصابتِ النَّارُ منه. والثاني، يضمنُه؛ لأنَّه جاء بالإِلْقاءِ المُفْضِى إلى الهلاكِ، وتَرْكُ التخلُّصِ لا يُسْقِطُ الضَّمانَ، كما لو فَصَدَه فتَرَكَ شَدَّ فِصَادِه مع إمكانِه، أو جَرَحَه فتركَ مُداواةَ جُرْحِه، وفارَقَ الماءَ؛ لأنَّه لا يُهْلِكُ بنَفْسِه، ولهذا يَدْخُلُه الناسُ للغُسْلِ والسِّباحةِ والصَّيْدِ، وأمَّا النَّارُ فيَسِيرُها يُهْلِكُ. وإنَّما تُعْلَمُ قُدْرَتُه على التخلُّصِ بقَوْلِه: أنا قادرٌ على التخلُّصِ. أو نحو هذا؛ لأنَّ النَّارَ لها حَرارةٌ شديدةٌ، فربَّما أزْعَجَتْه حَرارَتُها عن مَعْرِفةِ ما يَتَخلَّصُ به، أو أَذْهَبَتْ عقلَه بأَلَمِها ورَوْعَتِها. وإن ألْقاه في لُجَّةٍ لا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منها، فالْتَقَمَه حُوتٌ، ففيه وَجْهان؛ أحدهما، عليه القَوَدُ؛ لأنَّه ألْقاهُ في مَهْلَكةٍ فهَلَكَ، فأشْبَهَ ما لو غَرِقَ فيها. والثاني، لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه لم يَهْلِكْ بها، أشْبَهَ ما لو قَتَلَه آدَمِيٌّ آخرُ. وإن ألْقاهُ في ماءٍ يَسِيرٍ، فأكَلَه سَبُعٌ، أو الْتَقَمَه حُوتٌ أو تِمْساحٌ، فلا قَودَ عليه؛ لأنَّ الذي فَعَلَه لا يَقْتُلُ غالِبًا، وعليه ضَمانُه؛ لأنَّه هَلَكَ بفِعْلِه. الضَّرْب الثالث، أن يَجْمَعَ بينَه وبينَ أسَدٍ أو نَمِرٍ، في مكانٍ ضَيِّقٍ، كزُبْيَةٍ (٣٤) ونحوِها، فيَقْتُلَه، فهذا عَمْدٌ، فيه القِصاصُ إذا فعَل السَّبُعُ به فِعْلًا يَقْتُلُ مثلُه، وإن فَعَلَ به فِعْلًا لو فَعَلَه الآدَمِيُّ لم يكُنْ عَمْدًا، لم يجبِ القِصاصُ به؛ لأنَّ السَّبُعَ صار آلَةً للآدَمِيِّ، فكان فِعْلُه كفِعْلِه. وإن ألْقاهُ مَكْتوفًا بينَ يَدَيِ الأسَدِ، أو النَّمِرِ، في فَضاءٍ، فأكَلَه، فعليه القَوَدُ. وكذلك إن جَمَعَ بينَه وبين حَيَّةٍ في مكانٍ ضَيِّقٍ، فنَهَشَتْه فقَتَلَتْه، فعليه القَوَدُ. وقال القاضي: لا ضَمانَ عليه في


(٣٣) في ب: "ولكن".
(٣٤) الزبية: حفرة للأسد.

<<  <  ج: ص:  >  >>