للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الجِنايَتَيْنِ تُوجِبُ حَدًّا مُنْفَرِدًا، فإذا اجْتمَعا، وجَب حدُّهما معًا، كما لو زَنَى، وسرقَ. وذهبتْ طائفةٌ إلى أنَّ الإِمامَ مُخَيَّرٌ فيهم بين القتل والصَّلْبِ، والقَطْعِ والنَّفْىِ؛ لأنَّ "أو" تقْتضِى التَّخْيِيرَ، كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (٦). وهذا قولُ سعيدِ بنِ المُسَيَّب، وعَطاءٍ، ومُجاهدٍ، والحسنِ، والضَّحَّاكِ، والنَّخَعِىِّ، وأبى الزِّنادِ، وأبى ثَوْرٍ، وداودَ. ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ: ما كان في القرآن "أو" فصاحِبُه بالخِيارِ. وقال أصحابُ الرَّأْىِ: إن قَتَلَ قُتِلَ، وإن أخَذَ المالَ قُطِعَ، وإن قَتَلَ وأَخَذَ المالَ، فالإِمامُ مُخَيَّرٌ بينَ قَتْلِه وصَلْبِه، وبين قَتْلِه وقَطْعِه، وبين أن يَجْمَعَ له ذلك كلَّه؛ لأنَّه قد وُجِدَ منه ما يُوجِبُ القتلَ والقَطْعَ، فكان للإِمامِ فِعْلُهما، كما لو قَتَلَ وقَطَعَ في غيرِ قَطْعِ طريقٍ. وقال مالِكٌ: إذا قَطَعَ الطَّرِيق، فرآه الإِمامُ جَلْدًا ذا رَأْىٍ، قتلَه، وإن كان جَلْدًا لا رَأْىَ له، قَطَعَه، ولم يعْتَبِرْ فِعْلَه. ولَنا، على أنَّه لا يُقْتَلُ إذا لم يَقْتُلْ، قولُ (٧) النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإحْدَى ثَلَاثٍ؛ كُفْرٍ بعدَ إيمانٍ، أوْ زِنًى بعدَ إحْصَانٍ، أوْ قتلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ" (٨). فأمَّا "أو" فقد قال ابنُ عباسٍ مثلَ قَوْلِنا، فإمَّا أن يكون تَوْقِيفًا، أو لغةً، وأيُّهما كان، فهو حُجَّةٌ، يدُلُّ عليه أنَّه بدأَ بالأغْلَظِ فالأغْلَظِ، وعُرْفُ القرآنِ فيما أُرِيدُ به التَّخْييرُ البدايةُ بالأخفِّ، ككفَّارَةِ اليمينِ، وما أُرِيدَ به التَّرْتيبُ بُدِئَ فيه بالأغْلَظِ فَالأغْلَظِ، ككفَّارَةِ الظِّهارِ والقَتْلِ، ويدلُّ عليه أيضًا، أنَّ العُقوباتِ تخْتلِفُ باخْتلافِ الإِجْرامِ، ولذلك اخْتَلَفَ حُكْمُ الزَّانِى والقَاذِفِ والسَّارِقِ، وقد سَوَّوْا بينهم ههُنا (٩) مع اخْتلاف جِناياتِهم، وهذا يَرُدُّ على مالكٍ، فإنَّه إنَّما اعتَبَرَ الجلَدَ والرَّأْىَ (١٠) دُونَ الجناياتِ، وهو مُخالِفٌ للأُصولِ التي ذكرْناها. وأمَّا قولُ أبى حنيفة، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ


(٦) سورة المائدة ٨٩. ولم يرد في الأصل، ب: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}.
(٧) في ب، م: "لقول".
(٨) تقدم تخريجه، في: ٣/ ٣٥٢.
(٩) سقط من: ب، م.
(١٠) في الأصل: "والزانى". تحريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>