للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جازَ الفِرارُ، لقولِ اللَّه تعالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (٤). وهذا إنْ كان لفظُه لفْظَ الخَبَرِ، فهو أمْرٌ، بدَلِيلِ قولِه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}. ولو كانَ خبرًا على حَقِيقَتِه، لم يكُنْ رَدُّنا مِن غلَبَةِ الواحدِ للعشرةِ إلى غَلَبةِ الاثْنَيْن تَخْفيفًا، ولأنَّ خبرَ اللَّه تعالَى صِدْقٌ لا يقَعُ بخلافِ مُخْبرِه، وقد عُلِمَ أنَّ الظَّفَرَ والغَلَبَةَ لا يحْصُلُ للمسلمين فى كلِّ مَوْطِنٍ يكُونُ العَدُوُّ فيه ضِعْفَ المسلمين فما دُونَ، فعُلِمَ أنَّه أمْرٌ وفرضٌ، ولم يأْتِ شىءٌ ينْسَخُ هذه الآيةَ، لا فى كتابٍ ولا سُنَّةٍ، فوَجَبَ الحكمُ بها. قال ابنُ عبَّاسٍ: نَزلتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (٥). فشقَّ ذلك على السلمين حينَ فرَضَ اللَّهُ عليهم ألَّا يَفِرَّ واحدٌ من عشرةٍ، ثمَّ جاءَ تَخْفِيفٌ، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} إلى قوله: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. فلمَّا خفَّفَ اللَّهُ عنهم من العَدَدِ، نَقَصَ من الصَّبْرِ بقَدْرِ ما خَفَّف من العَدَدِ. روَاه أبو داود (٦)، وقال ابنُ عبَّاسٍ: مَنْ فَرَّ مِن اثْنَيْن، فقَدْ فرَّ، ومَنْ فَرَّ من ثلاثةٍ فما فَرَّ (٧). الثانى، أَنْ لا يقْصِدَ بفِرارِه التَّحَيُّزَ إلى فِئَةٍ، ولا التَّحَرُفَ لقتالٍ، فإنْ قصدَ أحَدَ هذَيْن، فهو مُباحٌ له؛ [لقولِ اللَّه تعالَى] (٨): {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} (٩). ومَعْنَى التَّحَرُّفِ للقْتالِ، أَنْ ينْحازَ إلى مَوْضِعٍ يكونُ القتالُ فيه أمْكنَ، مثل أَنْ ينْحازَ مِن مُواجَهَةِ الشَّمْسِ أو الرِّيح إلى اسْتِدْبارِهما (١٠)، أو من نَزِلةٍ إلى عُلُوٍّ، أو من مَعْطَشَةٍ إلى مَوْضِعِ ماءٍ، أو يَفِرَّ بينَ أَيْدِيهم لتَنْتَقِضَ صُفوفُهُم، أو تَنْفَرِدَ خَيْلُهم من رجَّالَتِهم (١١)، أو


(٤) سورة الأنفال ٦٦. وفى أزيادة: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}.
(٥) سورة الأنفال ٦٥.
(٦) فى: باب فى التولى يوم الزحف، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود ٢/ ٤٣.
كما أخرجه البيهقى، فى: باب تحريم الفرار من الزحف. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى ٩/ ٧٦. وانظر حاشية مصنف عبد الرزاق ٥/ ٣٥٢.
(٧) أخرجه سعيد بن منصور، فى: باب لا يفر الرجل من الرجلين من العدو، من كتاب الجهاد. السنن ٢/ ٢٠٩. وانظر حاشيته. وأخرجه البيهقى، فى: باب تحريم الفرار من الزحف. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى ٩/ ٧٦.
(٨) فى م: "لأن اللَّه تعالى قال".
(٩) سورة الأنفال ١٦.
(١٠) فى الأصل، ب: "استدبارها".
(١١) فى أ: "رجالهم".

<<  <  ج: ص:  >  >>