للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظاهرُ المذهبِ أنَّ الحاكمَ لا يحْكُمُ بعِلْمِه في حَدٍّ ولا غيرِه، لا فيما عَلِمَه قبلَ الوِلَايةِ ولا بعدَها. هذا قولُ شُرَيْحٍ، والشَّعْبِيِّ، ومالكٍ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيْدٍ، ومحمدِ بنِ الحسنِ. وهو أحدُ قَوْلَي الشَّافعيِّ. وعن أحمدَ، رِوايةٌ أُخْرَى: يجوزُ له ذلك. وهو قولُ أبي يوسفَ، وأبي ثَوْرٍ، والقولُ الثاني للشَّافعيِّ، واخْتِيارُ المُزَنِيِّ؛ لأنَّ النبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قالتْ له هندٌ: إنَّ أبا سُفيانَ رجلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِن النَّفقةِ ما يَكْفِينِي ووَلَدِي. قال: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالْمَعْرُوفِ" (١). فحكَمَ لها مِن غيرِ بَيِّنَةٍ ولا إقْرارٍ، لِعلْمِه بصِدْقِها. ورَوَى ابنُ عبدِ البَرِّ، في "كتابِه" أنَّ عُروَةَ ومُجاهِدًا رَوَيَا، أنَّ رجلًا مِن بني مَخْزوِمٍ اسْتَعْدَى عمرَ بنَ الخطَّابِ على أبي سُفْيانَ بنِ حَرْبٍ، أنَّه ظَلَمَه حَدًّا في موضعِ كذا وكذا. قال عمرُ: إني لأعْلَمُ النَّاسِ بذلك، ورُبَّما لَعِبْتُ أنا وأنتَ فيه، ونحن غِلمانٌ، فأْتِنِي بأبي سُفْيان. فأتَاهُ به، فقال له عمرُ: يا أبا سفيانَ، انْهَضْ بنا إلى مَوْضِع كذا وكذا. فنَهَضُوا، ونظَرَ عمرُ، فقال: يا أبا سفيانَ، خُذْ هذا الحجرَ مِن هاهُنا فضَعْه هاهُنا. فقال: واللهِ لا أفْعَلُ. فقال: واللهِ لَتَفْعَلنَّ. فقال: واللهِ لا أفْعَلُ. فعَلَاه بالدِّرَّةِ، وقال: خُذْهُ لا أُمَّ لك، فضَعْه هاهُنا، فإنَّك ما عَلمْتَ قَدِيمُ الظُّلْمِ. فأخذَ أبو سفيانَ الحجرَ، ووضَعَه حيثُ قال عمرُ، ثم إنَّ عمرَ اسْتَقْبلَ القِبْلةَ، فقال: اللَّهُمَّ لك الحمدُ حيثُ لم تُمتْنِي حتَّى غَلَبْتُ أبا سُفيانَ على رَأيِه، وأذْلَلْتَه لي بالإسْلامِ قال: فاسْتقبلَ القِبلةَ أبو سُفْيانَ، وقال: اللَّهُمَّ لك الحمدُ، إذْ لم تُمِتْنِي حتى جَعَلْتَ في قلبى من الإسْلامِ ما أُذِلُّ به لِعمرَ. قال (٢): فحكَمَ بعلمه. ولأنَّ الحاكمَ يحْكُمُ بالشَّاهِدَيْن، لأنَّهما يَغْلِبانِ على الظَّنِّ، فما تحقَّقَه وقطعَ به، كان أوْلَى، ولأنَّه يَحْكُمُ بعِلْمِه في تَعْدِيلِ الشُّهودِ وجَرْحِهم، فكذلك في ثُبوتِ الحَقِّ، قياسًا عليه. وقال أبو حنيفةَ: ما كان من حُقوقِ اللهِ، لا يَحْكُمُ فيه بعِلْمِه؛ لأنَّ حُقوقَ اللهِ تعالى مَبْنِيَّةٌ على المُساهَلةِ والمُسامَحَةِ، وأمَّا حُقوقُ الآدَمِيِّينَ فما عَلِمَه قبلَ وِلايتِه (٣) لم (٤) يحْكُمْ به، وما علمَه في


(١) تقدم تخريجه، في: ١١/ ٣٤٨.
(٢) في ب، م: "قالوا".
(٣) في الأصل: "ولاية".
(٤) في الأصل: "لا".

<<  <  ج: ص:  >  >>