للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبو حنيفةَ: له أن يأْخُذَ بقَدْرِ حَقِّهِ إن كان عَيْنًا، أو وَرِقًا، أو مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وإن كان المَالُ عَرْضًا، لم يَجُزْ؛ لأنَّ أَخْذَ العَرْضِ عن حَقِّهِ اعْتِياضٌ، ولا تجُوزُ المُعاوَضَةُ إِلَّا برِضًى مِنَ المُتَعَاوِضَيْن، قال اللَّه تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (١٧). واحتَجَّ مَنْ أجازَ الأَخْذَ بحدِيثِ هِنْد، حينَ جاءتْ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّ أبا سُفْيَانَ رجلٌ، شَحِيحٌ، وليس يُعْطينى من النَّفَقَةِ ما يكفِينى وولدِى. فقال: "خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوفِ". مُتَّفَقٌ علَيْه. وإذا جاز لها أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مالِهِ ما يكْفِيها بغيرِ إذْنِهِ، جاز للرَّجُلِ الذى له الحقُّ على الرَّجُلِ. ولَنا، قولُ النَّبِىِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَدِّ الْأَمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". روَاه التِّرْمِذِىُّ (١٨)، وقال: حديثٌ حَسَنٌ. ومتى أخَذَ منه قَدْرَ حقِّهِ من مالِهِ بغَيْرِ عِلْمِهِ، فقد خانَهُ، فيدْخُلُ فى عُمومِ الْخَبَرِ، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" (١٩). ولأَنَّهُ إن أخَذَ من غيرِ جِنْسِ حَقِّهِ، كان مُعاوَضَةً بغير تَراضٍ، وإن أَخَذَ من جِنْسِ حَقِّهِ، فليس له تَعْيينُ الحقِّ بغَيْرِ رِضَى صاحبِهِ، فإِنَّ التَّعْيِينَ إليه، ألا تَرَى أنَّه لا يجُوزُ له أن يقولَ: اقْضِنِى حَقِّى مِنْ هذا الكِيسِ دونَ هذا. ولأنَّ كُلَّ ما لا يجُوزُ له تَمَلُّكُه إذا لم يكُنْ له دَيْنٌ، لا يجوزُ له أخْذُهُ إذا كان له دَيْنٌ، كما لو كان باذِلًا له. فأمَّا حديثُ هِنْد، فإِنَّ أحمدَ اعْتَذَرَ عنه بأنَّ حَقَّها واجبٌ عليه فى كلِّ وَقْتٍ. وهذا إشارَةٌ منه إِلَى الفَرْقِ بالْمَشَقَّةِ فى المُحاكَمَةِ فى كُلِّ وَقْتٍ، والمْخاصَمَةِ كُلَّ يَوْمٍ تجِبُ فيه النَّفَقَهُ، بخِلَافِ الدَّيْنِ. وفَرَّقَ أبو بَكْرٍ بينَهما بفرْقٍ آخَرَ، وهو أَنَّ قِيامَ الزَّوْجِيَّة كقيام البَيِّنَةِ، فكأَنَّ الحَقَّ صار معلومًا، بِعِلْمِ قيامِ مُقْتَضِيهِ، وبينهما فَرْقانِ آخَرانِ؛ أحدُهما، أنّ للمَرأةِ من التَّبَسُّطِ فى مالِهِ، بحُكْمِ العادَةِ، ما يُؤَثِّرُ فى إباحَةِ أخْذِ الحقِّ، وبَذْلِ اليَدِ فيه بالمَعْروفِ، بخِلافِ الأَجْنَبِىِّ. الثانى، أَنَّ النفَقَةَ تُرادُ لإِحْياءِ النَّفْسِ، وإبْقاءِ المُهْجَةِ، وهذا مِمَّا (٢٠) لا يُصْبَرُ عنه، ولا


(١٧) سورة النساء ٢٩.
(١٨) تقدم تخريجه، فى: ٩/ ٢٥٦.
(١٩) تقدم تخريجه، فى: ٦/ ٦٠٦. ويضاف: وأخرجه الإمام أحمد، فى: المسند ٥/ ١١٣.
(٢٠) فى أ، م: "ما".

<<  <  ج: ص:  >  >>