للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرض له النضر بن الحارث، وكلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفْحَمَه، ثم تلا عليه وعليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} إلى قوله: {وهم فيها لا يسمعون}. ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عبد الله بن الزِّبَعْرى بن قيس بن عدي السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: واللهِ، ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنِفًا وما قعد، وقد زعم أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزِّبَعْرى: أما -واللهِ- لو وجدته لَخَصَمْتُه، فسلوا محمدًا: أكُلُّ مَن عُبِد من دون الله في جهنم مع مَن عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عُزَيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم! فعجب الوليد بن المغيرة ومَن كان في المجلس مِن قول عبد الله بن الزِّبَعْرى، ورأوا أنه قد خاصم واحْتَجَّ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول ابن الزِّبَعْرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم، كل مَن أحب أن يُعْبَد من دون الله فهو مع مَن عبده، إنما يعبدون الشياطين ومَن أمَرَتْهُم بعبادته». فأنزل الله عليه: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} إلى {خالدون}، أي: عيسى ابن مريم، وعزيرًا، ومَن عبدوا مِن الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم مَن بعدهم مِن أهل الضلالة أربابًا من دون الله. فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} إلى قوله: {نجزي الظالمين} [الأنبياء: ٢٦ - ٢٩] (١) [٤٤٠٤]. (ز)


[٤٤٠٤] علّق ابنُ تيمية (٤/ ٣٩٢) على ما جاء في قصة ابن الزِّبَعْرى، فقال: «وابن الزِّبَعْرى وغيره من المشركين تعلَّقوا بالقياس الفاسد في قوله: {إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ}، فقاس المسيحَ على الأصنام بكونه معبودًا وهذا معبود، وهذا من جهله بالقياس؛ فإنّ الفرق ثابت بأن هؤلاء أحيانًا ناطقون، وهم صالحون يتألمون بالنار؛ فلا يُعَذَّبون لأجل كفر غيرهم، بخلاف الحجارة التي تلقى في النار إهانةً لها ولمن عبدها، وأيضًا فإنّ الخطاب للمشركين لا لأهل الكتاب، والمشركون لم يعبدوا المسيح، وإنما كانوا يعبدون الأصنام، والمراد بقوله: {وما تعبدون} الأصنام، فالآية لم تتناول المسيح لا لفظًا ولا معنى». ثم قال بعد هذا: «فالمسيح والعزير والملائكة وغيرهم ممن عُبِد من دون الله وهو مِن عباد الله الصالحين، وهو مستحق لكرامة الله بوعد الله وعدله وحكمته؛ فلا يعذب بذنب غيره؛ فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى. والمقصود بإلقاء الأصنام في النار إهانة عابديها، وأولياء الله لهم الكرامة دون الإهانة».
وبنحوه ابنُ القيم (٢/ ٢٠٢ - ٢٠٣)، وزاد: «وهذا الإيراد الذي أورده ابن الزِّبَعْرى لا يرِد على الآية؛ فإنه سبحانه قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله}، ولم يقل: ومن تعبدون، و {ما} لما لا يعقل، فلا يدخل فيها الملائكة والمسيح وعزير، وإنما ذلك للأحجار ونحوها التي لا تعقل، وأيضًا فإن مَن عبد هؤلاء بزعمه فإنه لم يعبدهم في الحقيقة، فإنهم لم يدعوا إلى عبادتهم، وإنما عبد المشركون الشياطين، وتوهموا أن العبادة لهؤلاء، فإنهم عبدوا بزعمهم مَن ادعى أنه معبود مع الله، وأنه معه إله، وقد برأ الله سبحانه ملائكته والمسيح وعزيرًا من ذلك، وإنّما ادعى ذلك الشياطين، وهم بزعمهم يعتقدون أنهم يرضون بأن يكونوا معبودين مع الله، ولا يرضى بذلك إلا الشياطين؛ ولهذا قال سبحانه: {ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أهَؤُلاءِ إيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِن دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: ٤٠ - ٤١] ... ».
وعلّق ابنُ كثير (٩/ ٤٥٢) على هذا القول، فقال: «وهذا الذي قاله ابن الزِّبَعْرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها؛ ولهذا قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}، فكيف يُورَد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح، ولم يرض بعبادة من عبده».

<<  <  ج: ص:  >  >>