فلا ينبغي التسوية بين كل هذه المضامين في التشدد أو التساهل؛ بل يتشدد فيما نصَّ الأئمة على التشدد فيه، ويتساهل فيما نصَّ الأئمة على التساهل فيه بعد فهم التشدد والتساهل على وجههما.
ويكفينا هنا الاستشهاد بكلام البيهقي السابق ذكره، حيث قال في معرض تصنيفه للرواة:"وضرب لا يكون راويه متهمًا بالوضع، غير أنه عرف بسوء الحفظ وكثرة الغلط في رواياته، أو يكون مجهولًا لم يثبت من عدالته وشرائط قبول خبره ما يوجب القبول، فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملًا في الأحكام. . . وقد يستعمل في الدعوات والترغيب والترهيب، والتفسير والمغازي فيما لا يتعلق به حكم".
وهو كلام مفيد جدًّا في تحرير محل التساهل في هذه العلوم، وأن التساهل لا يجري في جميع مروياتها بل يختص بما لم يكن له تعلق بحكم. فمرويات المغازي والتفسير وغيرها يتشدد فيها إذا تعلقت بحكم، ويتساهل فيها إذا لم تتعلق بحكم، وبه تعرف خطأ تعميم الحكم عليها بالتساهل أو التشدد مطلقًا.
إذن؛ فليس الإشكال في نقل نصوص العلماء في التساهل أو التشدد، وإنما هو في تكييفها وتنزيلها على محالها بعد تحرير مرادهم بالتشدد والتساهل وقد سبق بيانه.
ثانيًا: المفسّر:
لمعرفة المفسر أثر في تحديد آلية التعامل مع التفسير المروي عنه من حيث القبول والرد، أو التشدد والتساهل؛ ذلك أن التفسير المروي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يستوي مع تفسير من دونه، لكون المروي عنه عند ثبوته سالمًا من الخطأ، ولكونه لا تجوز مناقضته ولا معارضته، بخلاف غيره، وإذا كان المحدثون يفرقون في درجة التشدد والتساهل في حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نفسه؛ فإن التساهل في المروي عمن دونه من باب أولى، ولا يعني هذا أن الأصل التساهل في كل المروي عما عدا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكنه أمر نسبي يتفاوت صعودًا ونزولًا بحسب مجموعة من المحددات والعوامل، إِلا أن مراعاته مع نسبيته عند التضلع بثبوت الخبر عن المفسر أو عدم ثبوته من الأهمية بمكان.