وذكر ابنُ عطية (٧/ ٥٦٧) أن الاستثناء -على القول الأول الذي قاله قتادة، ومقاتل- متصل، وأنه -على القول الثاني الذي قاله مجاهد- منفصل، كأنه تعالى قال: لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء. ورجَّح ابنُ جرير (٢٠/ ٦٦٢ - ٦٦٣) القول الأول الذي قاله قتادة مستندًا إلى دلالة أحوال النزول، والنظائر، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إن الله -تعالى ذكره- أخبر أنه لا يملِك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق. وشهادته بالحق هو: إقراره بتوحيد الله، وإنما يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده. ولم يخْصُص بأن الذي لا يملك تلك الشفاعة منهم بعض من كان يُعبد من دون الله دون بعض، فذلك على جميع مَن كان تعبد قريش من دون الله يوم نزلت هذه الآية وغيرهم، وقد كان فيهم مَن يعبد من دون الله الآلهة، وكان فيهم مَن يعبد من دونه الملائكة وغيرهم، فجميع أولئك داخلون في قوله: ولا يملك الذين تدعو قريش وسائر العرب من دون الله الشفاعة عند الله، ثم استثنى -جل ثناؤه- بقوله: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وهم الذين يشهدون شهادة الحق، فيوحّدون الله، ويخلصون له الوحدانية، على علم منهم ويقين بذلك أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها، كما قال -جلّ ثناؤه-: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: ٢٨]، فأثبت تعالى ذكره للملائكة وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان، باستثنائه الذي استثناه». ورجَّح ابنُ عطية (٧/ ٥٦٧) القول الأول، فقال: «والتأويل الأول أصوب». ولم يذكر مستندًا. وذكر ابنُ تيمية (٥/ ٥٣٤ - ٥٣٦) أن كلا القولين صحيح، ثم رجَّح القول الثاني الذي قاله مجاهد مستندًا إلى ظاهر لفظ الآية، ودلالة العقل، فقال: «التحقيق في تفسير الآية: أنّ الاستثناء منقطع، ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقًا، لا يستثنى من ذلك أحد عند الله، فإنه لم يقل: ولا يشفع أحد. ولا قال: لا يشفع لأحد. بل قال: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة}. وكل مَن دُعي من دون الله لا يملك الشفاعة ألبتة، والشفاعة بِإذْنٍ ليست مختصّة بمن عُبد من دون الله؛ وسيّد الشفعاء - صلى الله عليه وسلم - لم يُعبد كما عُبد المسيح. وهو -مع هذا- له شفاعة ليست لغيره، فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دُعي من دون الله دون من لم يُدع». وانتقد القول الأول بما مفاده الآتي: ١ - أنه يفيد أن من دُعي من دون الله لا يملك الشفاعة إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم، أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم، ويبقى الذين لم يُدعَوا من دون الله لم تُذكر شفاعتهم لأحد. وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه، وسبب نزول الآية يبطله أيضًا. ٢ - أن قوله: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} يتناول كل معبود من دونه، ويدخل في ذلك الأصنام، فإنهم كانوا يقولون: هم يشفعون لنا. {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: ١٨] فإذا قيل: إنه استثنى الملائكة والأنبياء كان في هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله يشفعون لهم. ٣ - إذا كان المعنى: أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء كان في هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم إذا كانوا صالحين. والقرآن كله يبطل هذا المعنى، ولهذا قال تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: ٢٨] فبيّن أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرّبّ. فعلم: أنه لابد أن يؤذن لهم فيمن يشفعون فيه وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق. ٤ - القرآن إذا نفى الشفاعة من دونه نفاها مطلقًا. وقوله: {من دونه} يحتمل ثلاثة تقديرات: الأول: أن يكون متصلًا بقوله: {يملكون}، والمعنى: لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه. الثاني: أن يكون متصلًا بقوله: {يدعون}، والمعنى: لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا. الثالث: أن يكون متصلًا بهما، والمعنى: لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه. ورجَّح ابنُ تيمية التقدير الثاني إستنادًا إلى ظاهر الآية، والنظائر؛ لكونه أخّر {الشفاعة} وقدّم {من دونه}، ولكثرة نظائره في القرآن؛ كقوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: ١٨]. وانتقد التقديرَ الأول مستندًا للنظائر، حيث إنّ اللفظ المستعمل في مثل هذا أن يقال: لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه أو لمن ارتضى ونحو ذلك، لا يقال في هذا المعنى: {من دونه}؛ فإن الشفاعة هي من عنده، فكيف تكون من دونه؟! لكن قد تكون بإذنه، وقد تكون بغير إذنه. وأيضًا فإذا قيل: {الذين يدعون} مطلقًا دخل فيه الرّبُّ تعالى، فإنهم كانوا يدعون الله ويدعون معه غيره، ولهذا قال: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: ٦٨]. وذكر أنّ التقدير الثالث وإن كان أجود من الأول إلا أنه يَرِدُ عليه ما يرد على الأول. ثم ذكر أنه مما يضعفهما: أنّ {الشفاعة} لم تذكر بعدها صلة لها، بل قال: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة}، فنفى ملكهم الشفاعة مطلقًا. وهذا هو الصواب.