ورجَّح ابنُ جرير (٧/ ٦٨٣) مستندًا إلى القراءات أن يكون {والمقيمين} في موضع خفض عطفًا على {وما} التي في قوله: {وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ}، «وأن يوجَّه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة، فيكون تأويل الكلام: والمؤمنون منهم يؤمنون بما أُنزِل إليك يا محمد من الكتاب، وبما أُنزِل من قبلك من كتبي، وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة؛ ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم، فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر»، وقال مُعَلِّلًا: "لأنه قد ذُكِر أن ذلك في قراءة أبيِّ بن كعب: {والمقيمين}، وكذلك هو في مصحفه فيما ذَكَروا. ثم انتَقَدَ (٧/ ٦٨٤) مستندًا إلى رسم المصحف، وقراءة المسلمين قولَ عائشة، وأبان بن عثمان أنّ ذلك غلطٌ من الكاتب؛ بأنّه لو «كان ذلك خطأً من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غيرِ مصحفِنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابته، بخلاف ما هو في مصحفنا، وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيٍّ في ذلك ما يدل على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صوابٌ غير خطأٍ، مع أنّ ذلك لو كان خطأً من جهة الخط لم يكن الذين أُخِذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجْه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنوه الأمة تعليمًا على وجه الصواب. وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً على ما هو به في الخط مرسومًا أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صُنْعَ في ذلك للكاتب». وانتَقَد (٧/ ٦٨٤ - ٦٨٥) باقي الأقوال مستندًا إلى الأفصح في لغة العرب، وعدم الدليل على صحّة بعضها قائلًا: «وأمّا مَن وجَّه ذلك إلى النصب على وجْه المدح للراسخين في العلم، وإن كان ذلك قد يحتمل على بُعْدٍ من كلام العرب؛ لِما قد ذكرتُ قبلُ من العلة، وهو أنّ العرب لا تعدل عن إعراب الاسم المنعوت بنعتٍ في نعته إلا بعد تمام خبره، وكلام الله أفصح الكلام؛ فغيرُ جائزٍ توجيهه إلا إلى الذي هو به من الفصاحة. وأما توجيه من وجَّه ذلك إلى العطف به على الهاء والميم في قوله: {لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنهُمْ}، أو إلى العطف على الكاف من قوله: {بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ}، أو إلى الكاف من قوله: {وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح؛ لما قد ذكرتُ قبلُ من قُبْحِ ردِّ الظاهر على المكنيِّ في الخفض. وأما توجيه مَن وجَّه المقيمين إلى الإقامة، فإنه دَعْوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل، ولا خبر تثبُتُ حجته، وغير جائزٍ نقل ظاهر التنزيل إلى باطنٍ بغير برهان». وفي هذا المعنى ذكر ابنُ تيمية (٢/ ٣٦٥) ما روي عن عثمان أنه قال: إنّ في القرآن لحنًا ستقيمه العرب بألستنها. ثم انتَقَدَهُ مستندًا إلى الدلالة العقلية قائلًا: «ومِمّا يُبَيِّن كذب ذلك: أنّ عثمان لو قدر ذلك فيه، فإنما رأى ذلك في نسخة واحدة، فأما أن تكون جميع المصاحف اتفقت على الغلط، وعثمان قد رآه في جميعها، وسكت: فهذا ممتنع عادة وشرعًا من الذين كتبوا، ومن عثمان، ثم من المسلمين الذين وصلت إليهم المصاحف ورأوا ما فيها، وهم يحفظون القرآن، ويعلمون أن فيه لحنًا لا يجوز في اللغة، فضلًا عن التلاوة، وكلهم يُقِرُّ هذا المنكر لا يغيره أحد، فهذا مما يعلم بطلانه عادة، ويعلم من دين القوم الذين لا يجتمعون على ضلالة؛ بل يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر أن يدعوا في كتاب الله منكرًا لا يغيره أحد منهم، مع أنهم لا غرض لأحد منهم في ذلك، ولو قيل لعثمان: مر الكاتب أن يغيره لكان تغييره من أسهل الأشياء عليه. فهذا ونحوه مما يوجب القطع بخطأ من زعم أنّ في المصحف لحنًا أو غلطًا، وإن نقل ذلك عن بعض الناس ممن ليس قوله حجة، فالخطأ جائز عليه فيما قاله؛ بخلاف الذين نقلوا ما في المصحف وكتبوه وقرأوه، فإنّ الغلط ممتنع عليهم في ذلك، وكما قال عثمان: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش. وكذلك قال عمر لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل». وانتَقَدَ ابنُ كثير (٤/ ٣٦٩) اختيار ابن جرير بأنّ المراد بالمقيمين الصلاة: الملائكة، قائلًا: «وفي هذا نظر».