وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه «. ثم ذكر في الآية احتمالًا ثالثًا، فقال:» وقيل: {عاصِمَ} معناه: ذو اعتصام «. وعلق عليه قائلًا:» فـ {عاصِمَ} على هذا في معنى: معصوم، ويجيء الاستثناء مستقيمًا". ورجّح ابنُ القيم (٢/ ٥٥ - ٥٦) أنّ الاستثناء في الآية منقطع، وانتقد ما سواه، مستندًا إلى دلالة العقل، فقال: «قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} الاستثناء منقطع على أصَحِّ الوجوه في الآية؛ فإنّه تعالى لَمّا ذكر العاصم استدعى معصومًا مفهومًا مِن السياق، فكأنه قيل: لا معصوم اليوم مِن أمره إلا مِن رحمة، فإنّه لما قال: {لا عاصم اليوم من أمر الله} بقي الذهنُ طالبًا للمعصوم، فكأنه قيل: فمَن الذي يعصم؟ فأجيب: بأنّه لا يعصم إلا من رحمة الله. ودلَّ هذا اللفظُ باختصاره وجلالته وفصاحته علي نفيِ كل عاصم سواه، وعلى نفي كل معصوم سوى مَن?، فدل الاستثناء على أمرين: على المعصوم من هو؟ وعلى العاصم وهو ذو الرحمة. وهذا مِن أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه، ولا يلتفت إلى ما قيل في الآية بعد ذلك». وذكر ابنُ القيم الاحتمال الثالث الذي أورده ابنُ عطية أنّ {عاصم} بمعنى: معصوم، وانتقده مستندًا إلى اللغة، فقال: «قيل: إنّ عاصمًا بمعنى: معصوم، كـ {ماء دافق} [الطارق: ٦]، و {عيشة راضية} [الحاقة: ٢١]، والمعنى: لا معصوم إلا من رحمة الله. وهذا فاسد؛ لأنّ كل واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوع لمعناه الخاص به، فلا يشاركه فيه الآخر، وليس الماء الدافق بمنى المدفوق، بل هو فاعل على بابه، كما يقال: ماء جار، فـ {دافق} كجار، فما الموجب للتكلف البارد؟». ثم ذكر بعده الاحتمال الأول الذي أورده ابنُ عطية، وانتقده أيضًا مستندًا إلى اللغة بقوله: «والقول الثاني: أنّ {من رحم} فاعل لا مفعول، والمعنى: لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم، فهو استثناء فاعل من فاعل. وهذا وإن كان أقل تكلفًا فهو أيضًا ضعيف جدًّا، وجزالة الكلام وبلاغته تأباه بأول نظر». ثم ذكر قولًا ثالثًا، وانتقده مستندًا إلى اللغة، فقال: «والقول الثالث: أن في الكلام مضافًا محذوفًا قام المضاف إليه مقامه، والتقدير: لا معصوم عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمة الله. وهذا من أنكر الأقوال وأشدها منافاة للفصاحة والبلاغة».