وذكر ابنُ عطية (١/ ٢٨٧) احتمال {الناس} العمومَ والخصوصَ دون ترجيح، فقال: «يحتمل أن يراد بالنّاسِ محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم التام، وهو قول اليهود فيما حُفِظَ عنهم». [٣٧٣] اختلف أهل التأويل في الوجه الذي أُمِرُوا أن يتمنوا الموت به، على قولين: الأول: الدعاء على الفريق الكاذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة. الثاني: تشهي الموت وإرادته لا على وجه المباهلة. وجعل ابن جرير (٢/ ٢٦٧ - ٢٦٨) الأوّلَ للنّصارى، والثّاني لليهود، فقال: «وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مُهاجَرِه، وفضح بها أحْبارَهم وعلماءَهم، وذلك أن الله -جَلَّ ثناؤُه- أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره الله أن يدعوَ الفريقَ الآخر من النصارى -إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه، وجادلوه فيه- إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة، وقال لفريق اليهود: إن كنتم مُحِقِّين فتَمَنَّوُا الموت، فإن ذلك غير ضارِّكم إن كنتم مُحِقِّين فيما تَدَّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل إن أُعْطِيتُم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونَصَبها وكَدَر عيشها، والفوزِ بجِوار الله في جنانه إن كان الأمر كما تزعمون مِن أنّ الدار الآخرة لكم خالصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناسُ أنكم المبطلون، ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، لعلمها أنَّها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق النصارى -الذين جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيسى؛ إذْ دُعُوا إلى المباهلة- من المباهلة». واسْتَدْرَك ابنُ كثير (١/ ٤٩٦ - ٤٩٧) على كلام ابن جرير، بقوله: «هذا الكلام منه أوله حسن، وأما آخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل؛ إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت؛ فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا، وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث: «خيركم من طال عمره، وحسن عمله». ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون- أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحةِ الموتَ؛ فكيف تلزمونا بما لا نلزمكم؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأمّا على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نَصَف: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة، ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك، وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أنّ المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، وسُمِّيَت هذه المباهلة تمنّيًا لأنّ كل مُحِقٍّ يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيّما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت».