ورجَّحَ ابنُ جرير (١٤/ ٣٦٠) القولَ الثالثَ استنادًا إلى السياق، والنظائر، وقال مُعَلِّلًا اختياره: «إنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية لأن الله -تعالى ذكره- أتبع هذا القولَ: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}، وقال في موضع آخر: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم} [الأعراف: ٢٠٠]، فكان بيِّنًا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال؛ ليعيذهم من سلطانه». والظاهر من كلام ابن عطية (٥/ ٤٠٧) أنه اختار الأول، واستدرك على الثاني استنادًا إلى القرآن، حيث قال: «أخبر الله تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة، هذا ظاهر» السلطان «عندي في هذه الآية، وذلك أن» السلطان «إن جعلناه» الحجة «فليس له حجة في الدنيا على أحد لا مؤمن ولا كافر، اللهم إلا أن يتأوَّلَ متأوِّل: ليس له سلطان يوم القيامة. فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة؛ لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له مِن قِبَل أنفسهم، وهؤلاء الذين لا سلطان ولا رياسة لإبليس عليهم هم المؤمنون أجمعون؛ لأن الله لم يجعل سلطانه إلا على المشركين الذين يتولونه، والسلطان منفي هاهنا في الإشراك؛ إذ له عليهم ملكة ما في المعاصي، وهم الذين قال الله فيهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: ٤٢]، وهم الذين قال إبليس فيهم: {إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: ٤٠]». غير أنه ذكر له وجْهًا يمكن أن يحمل عليه، فقال: «اللهم إلا أن يتأوَّلَ متأوِّل: ليس له سلطان يوم القيامة. فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة؛ لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له مِن قِبَل أنفسهم». ورَجَّحَ ابنُ القيم (٢/ ١٢٦) القول الرابع استنادًا إلى القرآن، فقال: «الصواب: أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم، لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة. والقدرة داخلة في مسمى السلطان، وإنما سميت الحجة: سلطانًا؛ لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده، وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين، فقال في سورة الحجر [٣٩ - ٤٢]: {قالَ رَبِّ بما أغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ ولأغْوِيَنّهُمْ أجْمَعِينَ إلا عِبادَكَ مِنهُمُ المخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلىَّ مُسْتَقِيمٌ إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ}، وقال في سورة النحل: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * إنّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ والَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشرِكُونَ}، فتضمن ذلك أمرين: أحدهما: نفي سلطانه، وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص. والثاني: إثبات سلطانه على أهل الشرك، وعلى مَن تولاه».