وعلَّق عليه ابنُ عطية (٥/ ١٠٤) بقوله: «فالإشارة بقوله: {ذلك} -على هذا التأويل- هي إلى بقائه في السجن، والتماسه البراءة، أي: هذا ليعلم سيدي أنِّي لم أخنه. الوجه الثاني: أنّ يوسف قال هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها، إلى قولها: {وإنه لمن الصادقين}، وهو قول ابن عباس. ولم يذكر ابنُ جرير غيرَ هذا القولَ، واستشهد له باللغة، والنظائر، وأقوال السلف، فقال:» واتَّصَلَ قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ} بقول امرأة العزيز: {أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} المعَرِّفَة السّامِعِين لمعناه، كاتِّصال قول الله تعالى: {وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} بقول المرأة: {وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً} [النمل: ٣٤]، وذلك أنّ قوله: {وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} خَبَرُ مبتدإٍ. وكذلك قول فرعون لأصحابه في سورة الأعراف: {فَماذا تَأْمُرُونِ}، وهو مُتَّصِلٌ بقول المَلَأِ: {يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِن أرْضِكُمْ} [الأعراف: ١١٠] ". وعلَّق ابنُ عطية على هذا القول بقوله: «فالإشارة -على هذا- إلى إقرارها، وصنع الله تعالى فيه». وانتقده مستندًا للسياق، فقال: «وهذا يضعف؛ لأنّه يقتضي حضورُه مع النسوة عند الملك، وبعد هذا يقول الملك: {ائتوني به}». ثم بَيَّن أنه على هذا القول يجيء قوله: {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} «بتقدير: وليعلم أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين». الثاني: أنّه مِن قول المرأة، ذكره ابنُ عطية (٥/ ١٠٤)، وعلَّق عليه بقوله (٥/ ١٠٥): «أي: قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أنِّي لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه، والتقدير على هذا التأويل: توبتي وإقراري ليعلم أنِّي لم أخنه، وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين». واختُلِف في قوله: {وما أبرئ نفسي ... }، هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها، وذكر ابنُ عطية (٥/ ١٠٥) أنّ مَن قال إنها من كلام يوسف روى في ذلك: عن أنس بن مالك أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لما قال يوسف: أني لم أخنه بالغيب. قال له جبريل: ولا حين هممت وحللت سراويلك. ومَن قال بأنّه مِن قول المرأة وجَّه كلامَها إلى الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببِدْعٍ، ولا ذلك نكير على البشر فأُبرِّئ أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه. وانتقد ابنُ تيمية (٤/ ٤٥ - ٥٢ بتصرف) قولَ مَن قال بأنّ الآيتين مِن قول يوسف، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وغيرهم، فقال: «وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدُلُّ على نقيضه». ورجَّح القولَ بأنّه مِن قول المرأة مستندًا إلى السياق، والدلالة العقلية، وذلك: ١ - أنّ حال يوسف الظاهر مِن القرآن أنّه صاحب نفس زكية عفيفة لم تستجب للإغراء الشديد، فكيف يقول: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} وهو يعلم أنّ نفسه بريئة زكية غير أمارة.٢ - أنّ قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} إذا كان معناه على ما زعموه أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم؛ أو ليعلم الملك أو ليعلم الله لم يكن هنا ما يشار إليه، فإنه لم يتقدم مِن يوسف كلام يشير به إليه، ولا تقدم أيضًا ذكرَ عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن: {ما علمنا عليه من سوء}. وقول امرأة العزيز: {أنا راودته عن نفسه}. وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أوَّلًا، ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو. فقول القائل: إنّ قوله: {ذلك} من قول يوسف، مع أنّه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل؛ لا يَصِحُّ بحال.٣ - أنّ المعنى على هذا التقدير -لو كان هنا ما يشار إليه مِن قول يوسف أو عمله-: إنّ عِفَّتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيزُ أنِّي لم أخنه، ويوسف - عليه السلام - إنّما تركها خوفًا مِن الله ورجاء لثوابه؛ لا لأجل مجرد علم مخلوق. قال الله تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}. فأخبر أنّه رأى برهان ربه، وأنّه مِن عباده المخلصين. ومَن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه، ولم يكن بذلك مخلصًا، فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحادُ الناس لم يكن له ثواب من الله؛ بل يكون ثوابه على مَن عمل لأجله.٤ - أنّ الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه مَن لذلك عنده قدر، وهذا يناسب لو كان العزيز غيورًا، وللعِفَّة عنده جزاء كثير، والعزيز قد ظهرت عنه مِن قلة الغيرة وتمكين امرأته مِن حبس يوسف مع الظالمين مع ظهور براءته ما يقتضي أنّ مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله، فإنّ النفس الأمارة تقول في مثل هذا: هذا لم يعرف قدر إحساني إليه وصوني لأهله؛ بل سلَّطها ومكَّنها. فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت مَن حاله هذا تفعل الفاحشة؛ إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه، وإمّا إهمالًا له لعدم غيرته وظهور دياثته، ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل لله خائفًا منه، وراجيًا لثوابه، لا من يريد تعريف الخلق بعمله.٥ - أنّ الخيانة ضد الأمانة، وهما من جنس الصدق والكذب، ولهذا يقال: الصادق الأمين، ويقال: الكاذب الخائن. وهذا حال امرأة العزيز، فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت: راودني. لكانت كاذبة وخائنة، فلما اعترفت بأنها هي المراودة كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه، ولهذا قالت: {وإنه لمن الصادقين}. فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها. فأما فعل الفاحشة فليس من باب الخيانة والأمانة، ولكن هو من باب الظلم والسوء والفحشاء كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى عن يوسف: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}. ولم يقل هنا: الخائنين، ثم قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}. ولم يقل: لنصرف عنه الخيانة.٦ - أنّ النفوس منقسمة إلى مرحومة وأمارة كما قال القرآن: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}. وقد علِمنا قطعًا أنّ نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء، وأمّا نفس يوسف - عليه السلام - فإن لم تكن من النفوس المرحومة عن أن تكون أمّارة فما في الأنفس مرحوم؛ فإنّ مَن تدَّبر قصة يوسف علم أن الذي رُحم به وصرف عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون، ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن وجعله عبرة، وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل هذه الدواعي أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف. وعلى هذا التقدير: فإن لم تكن نفس يوسف مرحومة فما في النفوس مرحومة، فإذًا كل النفوس أمارة بالسوء، وهو خلاف ما في القرآن.٧ - أن هذا الكلام فيه -مع الاعتراف بالذنب- الاعتذار بذكر سببه، فإنّ قولها: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} فيه اعتراف بالذنب، وقولها: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} إشارة تطابق لقولها: {أنا راودته}، أي: أنا مُقِرَّة بالذنب ما أنا مبرئة لنفسي، ثم بينت السبب فقالت: {إن النفس لأمارة بالسوء} فنفسي من هذا الباب، فلا ينكر صدور هذا منِّي، ثم ذكرت ما يقتضي طلب المغفرة والرحمة، فقالت: {إن ربي غفور رحيم}. فإن قيل: فهذا كلام مَن يُقِرُّ بأن الزنا ذنب، وأن الله قد يغفر لصاحبه. قيل: نعم، والقرآن قد دل على ذلك حيث قال زوجها: {واستغفري لذنبك}. وهذا دليل أنهم كانوا يرون ذلك ذنبًا ويستغفرون منه وإن كانوا مع ذلك مشركين؛ إذ الفواحش مما اتَّفق اهل الأرض على استقباحها.٨ - أنّ الله لم يذكر عن نبيٍّ ذنبًا إلا ذكر توبته منه، ويوسف لم يذكر القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب منه، وما نقل عن وقوعه في بعض مقدمات الذنب كحل السراويل ونحوها فهذا ليس مما ينقل عن النبي، بل عن أهل الكتاب، وقولهم في الأنبياء معروف، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه. والقرآن قد أخبر عن يوسف مِن الاستعصام والتقوى والصبر في هذه القضية ما لم يذكر عن أحد نظيره، فلو كان يوسف قد أذنب لَكان إما مصرًّا وإما تائبًا، والإصرار ممتنع، فتعيَّن أن يكون تائبًا، واللهُ لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفارًا كما ذكر عن غيره من الأنبياء؛ فدلَّ ذلك على أن قوله: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف. وانتقد ابنُ القيم (٢/ ٦٤ - ٦٥ بتصرف) القول بأنه من قول يوسف، ورجَّح أنّه من قول امرأة العزيز مستندًا إلى اللغة، والسياق، وذلك:
١ - أنّه متصل بكلام المرأة السابق، وهو قولها: {الآن حصحص الحق أنا راودته}، ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه، والقول في مثل هذا لا يُحْذَف لئلا يوقع في اللبس، فإن غايته أن يحتمل الأمرين، فالكلام الأول أولى به قطعًا.
٢ - أنّ يوسف لم يكن حاضرًا وقت مقالتها هذه، بل كان في السجن، والسياق صريح في ذلك فإنّه لما أرسل الملك إليه يدعوه قال للرسول: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن}.
٣ - أنّ الضمائر كلها في نسق واحد، وذلك قول النسوة: {ما علمنا عليه من سوء}، وقول امرأة العزيز: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}، فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر، ثم اتصل بها قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}، فهذا هو المذكور أولًا بعينه، فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه ويضمر فيه قولٌ لا دليل عليه. وبنحوه قال ابنُ كثير (٨/ ٥٠ - ٥١).