لما كانت الرواية نشاطًا إنسانيًّا لم يكن من الممكن إخضاعها لمقاييس مادية ومعادلات رياضية، ولذا فإن قواعدها العامة وأطرها الكلية هي الشيء الثابت الوحيد الذي تنتظم كل الجزئيات في فلكه، وتدور في إطاره وتبقى هذه الجزئيات داخل هذا الفلك متفاوتة في صعودها ونزولها وشدتها وضعفها، كما سبق التأكيد على ذلك، وهذا التفاوت منشؤه وسببه القرائن المحتفة بالرواية والراوي، وهذه القرائن هي التي تكون دقة الحكم النقدي بالصحة أو الضعف مؤسسة عليها؛ فهي بمثابة ميزان الذهب البالغ أعلى درجات الدقة في وزن ذرات الذهب الصغيرة قبل أجزائه الكبيرة، ولذا من أغفل هذه القرائن ولم ينتبه إليها ولم يستعملها في محلها؛ فلن يفهم منهج النقاد فضلًا عن أن يطبقه. وبعض ما يأتي من قرائن يؤثر في الحكم بالثبوت، أو يبيّن طريقة وآلية الحكم بالثبوت، أو يبين الثبوت عن مجموع السلف لا عن فرد منهم بعينه، أو يبين كون الخطأ المخوف منه مندفع عن معنى الرواية، فيثبت به صحة مضمونها وإن كنا لا نستطيع الحكم بثبوتها.
وهذه القرائن في الجملة؛ منها ما يكون مشتركًا بين المرويات كافة، ومنها يختص بعلم دون علم أو برواية دون رواية أو براوٍ دون راوٍ، وسيعرج البحث على بعض ما يتعلق بمرويات التفسير منها وإن كان بعضها قد يتعلق به وبغيره:
* القرينة الأولى: الاختصاص:
والمقصود به اختصاص الشخص بعلم ما أو براوٍ معين أو بمرويات بلد معين، وهذه سُنَّة جارية في عموم الخلق بحكم العجز البشري عن بلوغ الغاية وتحصيل البراعة في كل الفنون والعلوم، فقد نقل الذهبي كلام النقاد في عاصم بن أبي النجود ثم قال: "كان عاصم ثبتًا في القراءة، صدوقًا في الحديث، وقد وثقه: أبو زرعة،