ثُمَّ رَجَّح أثر ابن عباس مستندًا إلى ظاهر لفظ الآية، وسياقها، وأقوال السلف، وأخبار بني إسرائيل، وانتَقَد القولَين الآخرَين بذلك، فقال: «وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ}، الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصواب من القول في ذلك الإقرار بخبر الله -تعالى ذِكْره- الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه». ثم قال في الآية بعد هذه القصة: «{إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأَرْضَ حَنِيفًا وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ}، قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله -تعالى ذِكْرُه- عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنّه لما تبيّن له الحق وعرَفه شهد شهادةَ الحقّ، وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم». ورجَّح ابنُ كثير (٦/ ٩٧، ٩٨، ٩٩) مستندًا إلى السياق اللاحق أنّ إبراهيم - عليه السلام - كان في هذا المقام مناظرًا لقومه، وقال: «ومِمّا يؤيد أنّه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرًا؛ قولُه تعالى: {وحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدانِ ولا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إلا أنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا} الآيات». وانتقد مستندًا إلى دلالة القرآن، والسنة أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، فقال: «وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: {ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنّا بِهِ عالِمِينَ * إذْ قالَ لأبِيهِ وقَوْمِهِ ما هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} الآيات [الأنبياء: ٥١ - ٥٢]، وقال تعالى: {إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} الآيات [النحل: ١٢٠ - ١٢٣]، وقال تعالى: {قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأَنعام: ١٦١]، وقد ورد في الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة». وفي الحديث الآخر: «قال الله: إني خلقت عبادي حنفاء». وقال الله في كتابه العزيز: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها} [الروم: ٣٠]. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله {أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: ١٢٠] ناظرًا في هذا المقام؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك ولا ريب». وذكر ابنُ عطية (٣/ ٤٠٢ - ٤٠٣) أنّ في هذا المقام ثلاثة تأويلات: الأول: أنّه يحتمل أن يكون هذا وقع له في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف «فذلك ينقسم على وجهين: إمّا أن يُجعَل قوله: {هَذا رَبِّي} تصميمًا واعتقادًا، وهذا باطل؛ لأن التصميم لم يقع من الأنبياء -صلوات الله عليهم-، وإما أن يجعله تعريضًا للنظر والاستدلال، كأنه قال: هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل. ويجيء إبراهيم - عليه السلام - كما قال الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {ووَجَدَكَ ضالا فَهَدى} [الضحى: ٦]، أي: مهمل المعتقد». الثاني: أنّه يحتمل أن يكون هذا وقع له في حال كفره، وهو مكلَّف «فلا يجوز أن يقول {هَذا رَبِّي} مصمِّمًا ولا مُعرضًا للنظر؛ لأنها رتبة جهل أو شك، وهو - عليه السلام - مُنزَّه معصوم من ذلك كله». الثالث: أنه قالها لقومه على جهة التقرير، والتوبيخ، وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام، كأنه قال لهم: أهذا المنير ربي؟! أو {هَذا رَبِّي} وهو يريد: على زعمكم. وعضَّد هذا التأويل بالسياق، فقال: «ويعضد عندي هذا التأويل قوله: {إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ}».