للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

{فَلَمَّا أَفَلَ}

٢٥٣٥٢ - عن عبد الله بن عباس -من طريق علي بن أبي طلحة- قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي} فعبده حتى غاب، فلمّا غاب قال: {لا أحب الآفلين} (١) [٢٣٢٧]. (ز)


[٢٣٢٧] نقل ابن جرير (٩/ ٣٦١) أثر ابن عباس المقتضي لكون هذا وقع من إبراهيم - عليه السلام - في مقام نظر لا في مقام مناظرة، وبيَّن أن قومًا من غير أهل الرواية أنكروا القول الذي روي عن ابن عباس، مستندين إلى أنّه غير جائز أن يبعث الله نبيًّا بالرسالة أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلا وهو لله مُوَحِّد، وبه عارف، ومِن كل ما يُعبَد من دونه بريء، ولو جاز أن يأتي عليه وقت وهو به كافر لم يَجُز أن يختصه بالرسالة، ونقل عنهم وجوهًا في معناها: أحدها: أنّ ذلك على وجهِ الإنكارِ والمعارضةِ. والثاني: أنّ ذلك كان منه في حال طفولته، وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان. والثالث: أنّ معنى الكلام: أهذا ربي؟! على وجه التوبيخ والنفي؛ أهذا ربّي؟! أي: ليس هذا ربي.
ثُمَّ رَجَّح أثر ابن عباس مستندًا إلى ظاهر لفظ الآية، وسياقها، وأقوال السلف، وأخبار بني إسرائيل، وانتَقَد القولَين الآخرَين بذلك، فقال: «وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ}، الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصواب من القول في ذلك الإقرار بخبر الله -تعالى ذِكْره- الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه». ثم قال في الآية بعد هذه القصة: «{إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأَرْضَ حَنِيفًا وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ}، قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله -تعالى ذِكْرُه- عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنّه لما تبيّن له الحق وعرَفه شهد شهادةَ الحقّ، وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم».
ورجَّح ابنُ كثير (٦/ ٩٧، ٩٨، ٩٩) مستندًا إلى السياق اللاحق أنّ إبراهيم - عليه السلام - كان في هذا المقام مناظرًا لقومه، وقال: «ومِمّا يؤيد أنّه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرًا؛ قولُه تعالى: {وحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدانِ ولا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إلا أنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا} الآيات». وانتقد مستندًا إلى دلالة القرآن، والسنة أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، فقال: «وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرًا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: {ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وكُنّا بِهِ عالِمِينَ * إذْ قالَ لأبِيهِ وقَوْمِهِ ما هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} الآيات [الأنبياء: ٥١ - ٥٢]، وقال تعالى: {إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} الآيات [النحل: ١٢٠ - ١٢٣]، وقال تعالى: {قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأَنعام: ١٦١]، وقد ورد في الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة». وفي الحديث الآخر: «قال الله: إني خلقت عبادي حنفاء». وقال الله في كتابه العزيز: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها} [الروم: ٣٠]. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله {أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: ١٢٠] ناظرًا في هذا المقام؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك ولا ريب».
وذكر ابنُ عطية (٣/ ٤٠٢ - ٤٠٣) أنّ في هذا المقام ثلاثة تأويلات: الأول: أنّه يحتمل أن يكون هذا وقع له في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف «فذلك ينقسم على وجهين: إمّا أن يُجعَل قوله: {هَذا رَبِّي} تصميمًا واعتقادًا، وهذا باطل؛ لأن التصميم لم يقع من الأنبياء -صلوات الله عليهم-، وإما أن يجعله تعريضًا للنظر والاستدلال، كأنه قال: هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل. ويجيء إبراهيم - عليه السلام - كما قال الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {ووَجَدَكَ ضالا فَهَدى} [الضحى: ٦]، أي: مهمل المعتقد». الثاني: أنّه يحتمل أن يكون هذا وقع له في حال كفره، وهو مكلَّف «فلا يجوز أن يقول {هَذا رَبِّي} مصمِّمًا ولا مُعرضًا للنظر؛ لأنها رتبة جهل أو شك، وهو - عليه السلام - مُنزَّه معصوم من ذلك كله». الثالث: أنه قالها لقومه على جهة التقرير، والتوبيخ، وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام، كأنه قال لهم: أهذا المنير ربي؟! أو {هَذا رَبِّي} وهو يريد: على زعمكم. وعضَّد هذا التأويل بالسياق، فقال: «ويعضد عندي هذا التأويل قوله: {إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ}».

<<  <  ج: ص:  >  >>