وبنحوه قال ابنُ جرير (٢٤/ ٥٥٢). وقد أفادت الآثار أنّ المعنى: لم يكن الكفار من أهل التوراة والإنجيل والمشركون من عبدة الأوثان مُنتَهين عما هم فيه من الكفر والضلال حتى تأتيهم البينة. وقد ذكر ابنُ جرير (٢٤/ ٥٥١) هذا المعنى، ثم قال: «وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل». ثم أورد الآثار الواردة هنا، ولم ينسب للسلف غيره. ووجَّه ابنُ عطية الفعل في {تأتيهم البينة} أنه من إيقاع المستقبل موقع الماضي «لأنّ باقي الشريعة وعظمها لم يرد بعد». وذكر ابنُ جرير (٢٤/ ٥٥٢) قولًا ثانيًا، وأبهم قائليه، وهو أنّ المعنى: أنّ أهل الكتاب -وهم المشركون- لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم، حتى بُعث، فلما بُعث تفرّقوا فيه. ورجّحه مستندًا إلى السياق، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد حتى تأتيهم البينةُ، -وهي إرسال الله إياه رسولًا إلى خَلْقه- رسولٌ من الله ... ، واسْتُؤْنِفَ قولُه: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} وهي نَكِرَةٌ على البَيِّنَة، وهي معرفَةٌ، كما قيل: {ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ} [البروج: ١٦]، فقال: حتّى يَأْتيهم بَيانُ أمْر محمد أنّه رسول الله، بِبَعْثه اللهُ إيّاه إلَيهِم، ثُمَّ تَرْجَمَ عَنِ البَيِّنَةِ، فقال: تلك البَيِّنَة {رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً}». وذكر ابنُ عطية (٨/ ٦٦٢ - ٦٦٣) القولين، ثم بيّن احتمال الآية قولًا ثالثًا، فقال: «ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم مُنفكِّين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يَبعث إليهم رسولًا منذرًا تقوم عليهم به الحجة، وتتم على مَن آمن النعمة. فكأنه قال: ما كانوا ليُتركوا سُدًى. ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى». وذكر ابنُ تيمية (٧/ ١٥٠) الأقوال الثلاثة وأطال، فبيَّن أنّ القول الأول أشهر عند المفسرين، وأنه أفاد أنّ الكفار من أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا ليؤمنوا حتى يتبين لهم الحق بمجيء البينة، وهذا يتضمّن مدْحهم والثناء عليهم بعد مجيء البينة: «ولهذا احتاج مَن قاله إلى أن يقول: هذا فيمن آمن من الفريقين في أنه بيان لنعمة الله عليهم. وجعلوا قوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البينة: ٤] فيمن لم يؤمن منهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -».
وانتقد ابنُ تيمية (٧/ ١٥٤ - ١٥٦) هذا القول -مستندًا إلى القرآن، والسنة، والواقع- «وذلك أنه معلوم بالتواتر أنّ أهل الكتاب اختلفوا وتفرقوا قبل إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل اليهود افترقوا قبل مجيء المسيح، ثم لما جاء المسيح اختلفوا فيه، ثم اختلف النصارى اختلافًا آخر، فكيف يقال: إنّ قوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: ٤] هو فيمن لم يؤمن بمحمد منهم؟!». وذكر كثيرًا من الآيات والأحاديث الدالة على تفرّق أهل الكتاب واختلافهم قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية: ١٦ - ١٨]، ومن نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ... » الحديث. وذكر أيضًا أنّ الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كفار، وأنهم المذكورون في قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة}، وهم تفرّقوا واختلفوا فيما جاءت به الأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكفَرَ مَن كَفَر منهم قبل إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان منهم من لم يكفر بل كان مؤمنًا بالأنبياء كما قال تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: ١٥٩]، {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك} [الأعراف: ١٦٨]، وقال تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: ١١٣ - ١١٤]. وانتقد (٧/ ١٥٣) كذلك القول الثاني -مستندًا إلى أحوال النزول، واللغة، والدلالة العقلية- وذلك أنه «معلوم أنّ المشركين لم يكونوا يعرفونه - صلى الله عليه وسلم - ويذكرونه ويجدونه في كتبهم كما كان ذلك عند أهل الكتاب، ولا كانوا قبل مبْعثه على دين واحد متّفقين عليه فلما جاء تفرّقوا ... ، ولا يستقيم هذا أيضًا في أهل الكتاب، فإنّ الله إنما ذكر الكفار منهم، فقال: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}، ومعلوم أنّ الذين كانوا يعرفون نبوته ويُقِرُّون به ويذكرونه قبل أن يُبعث لم يكونوا كلّهم كفارًا، بل كان الإيمان أغلب عليهم. يبيّن هذا أنه إذا ذكر تفرق الذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة فإنه يعمّهم، فيقول: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: ٤]. وأنه لا يقول: كان الكفار من أهل الكتاب متّفقين على الحق حتى جاءتهم البينة. وأيضًا فتسمية الافتراق والاختلاف انفكاكًا لا يُعرَف في اللغة، وأيضًا فهو لم يذكر لـ {منفكين} خبرًا كما يقال: ما انفكوا يذكرون محمدًا، وما زالوا يؤمنون به ونحو ذلك. وهذه التي هي من أخوات» كان «لا يقال فيها: ما كنت منفكًًّا. بل يقال: ما انفككت أفعل كذا. فهو يلي حرف» ما". وأيضًا فليس في اللفظ ما يدل على أنّ الانفكاك عن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وأيضًا فهذا المعنى مذكور في قوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: ٤]، فلو أريد بهذه لكان تكريرًا محضًا. ورجّح (٧/ ١٥٧ - ١٦٤) بعد ذلك -مستندًا إلى اللغة، والنظائر، والدلالة العقلية- القول الثالث الذي ذكره ابن عطية، وذكر أنه أصح الأقوال لفظًا ومعنًى، وأنّ معنى الآية عليه: أنّ الله ما يخلِّيهم ولا يتركهم، فهو لا يفكّهم حتى يبعث إليهم رسولًا. وهذا كقوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: ٣٦] لا يؤمر ولا ينهى. أي: أيظن أنّ هذا يكون؟! هذا ما لا يكون ألبتة؛ بل لابد أن يؤمر ويُنهى. وقريب من ذلك قوله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} [الزخرف: ٣ - ٥]، وهذا استفهام إنكار، أي: لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ونُعرض عن إرسال الرسل؟! واستدل لترجيحه بعدة مرجِّحات، منها دلالة لفظ الانفكاك، فإنه مستعمل فيما يُلزَم به الإنسان ويُقهَر عليه إذا تخلّص منه، يقال: انفك منه كالأسير والرقيق المقهور بالرق والأسر ... ويقال: فلان ما يفكّ فلانًا حتى يوقعه في كذا وكذا، والمتولي لا يفكّ هذا حتى يفعل كذا، يقال لمن لزم غيره واستولى عليه إما بقدرة وقهر، وإما بتحسين وتزيين وأسباب حتى يصير بها مطيعًا له. يقال للمستولى عليه: هو ما ينفكّ من هذا كما لا ينفكّ الأسير والرقيق من المستولى عليه. فقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه، لا حَجْر عليهم، كما أنّ المنفكّ لا حَجْر عليه. وهو لم يقل «مفكوكين» بل قال: {منفكين}، وهذا أحسن؛ فإنه نفي لفعلهم، ولو قال: «مفكوكين» كان التقدير: لم يكونوا مُسيَّبين مُخلّين فهو نفي لفعل غيرهم. والمقصود: أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، بل يفعلون ما شاؤوا مما تهواه الأنفس. ومن المرجّحات أيضًا: أنّ «حتى» حرف غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، كما في قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: ٢٣٠] ونظائر ذلك، فلو أريد أنهم لم يكونوا مُنتَهين ويؤمنون حتى يتبيّن لهم الحق لزم أن يكونوا كلهم بعد مجيء البيّنة قد انتهوا وآمنوا؛ فإنّ اللفظ عام فيهم. وكذلك لو كان المراد أنهم كانوا متّفقين على تصديق الرسول حتى بُعث لزم أن يكونوا كلّهم كانوا يعرفونه قبل إرساله إليهم، وأنهم كلّهم بعد إرساله تفرّقوا واختلفوا. وكلاهما باطل؛ فكثير منهم أُمِّيُّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ولم يكونوا يعرفون ما في الكتب من بعْثه ومن أمور أُخَر، ولما بُعث فقد آمن به خَلْق كثير منهم، ولم يتفرقوا كلّهم عن الإيمان به، وحينئذ فالآية لم تتضمّن مدحهم مطلقًا كما ظن من ظن أن معناها: أنهم لم ينتهوا ولم يؤمنوا حتى يتبيّن لهم الحق. ولا تتضمّن ذمهم مطلقًا كما ظن من ظن أنهم لما جاءهم الرسول تفرّقوا واختلفوا بعد ما كانوا متّفقين على التصديق؛ بل تضمنّتْ مدح مَن آمن منهم بالرسول، وذم مَن لم يؤمن، والإخبار أنه لابد من إرسال الرسول إليهم فيؤمن به بعضهم، ويكفر بعض، قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: ٢٥٣]. ثم بيَّن أنّ الآية يمكن أن تتضمّن بعد ذلك القول الأول، فقال: «إذا قيل: إنّ الآية تتضمّن بعد ذلك المعنى الآخر، وهو أنهم لم يكونوا ليهتدوا ويعرفوا الحق ويؤمنوا حتى تأتيهم البيّنة، إذ لا طريق لهم إلى معرفة الحق إلا برسول يأتي من الله أيضًا؛ أولم يكونوا مُنتَهين مُتَّعظين وإنْ عرفوا الحق حتى يأتيهم من الله مَن يُذكرهم؛ فهذا المعنى لا يناقض ذاك».