ورجَّح ابنُ جرير (٨/ ٣٨٩ بتصرف) القول الأخير الذي قال به سعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز مستندًا إلى الدلالات العقلية، فقال: «لأنّ أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة، وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنّ الله -جلَّ ثناؤه- إنما جعل جزاء المحارب القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه؛ كان معلومًا أنّ النفي أيضًا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيًا له من الأرض كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه، وفي إجماع الجميع أنّ ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله - عز وجل - حدًّا له بعد القدرة عليه [ما يُبطل أن يكون نفيه من الأرض: هروبه من الطلب]، وإذ كان كذلك فمعلومٌ أنّه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها، أو السجن. فإذ كان كذلك فلا شك أنّه إذا نُفِي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم يُنفَ من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض، وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله -جل ثناؤه- إنما أمر بنفيه من الأرض؛ كان معلومًا أنّه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها، فيكون منفيًّا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه». وكذا رجَّحه ابنُ عطية (٣/ ١٥٧) مستندًا إلى الدلالات العقلية، فقال: «والظاهر أنّ الأَرْض في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديمًا الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفيُّ مخوفَ الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحًا، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري، وهو الراجح؛ لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية، وسجنه بعدُ بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفُهِم حاله سُرِّح».