ووجَّه ابنُ عطية (٨/ ٦٢٩) القول الأول بقوله: «كأنه تعالى قال: قد أفلحت الفرقة أو الطائفة التي زَكّاها الله تعالى، و {مَن} تقع على جمع أو أفراد». ووجَّه القول الثاني بقوله: «كأنه تعالى قال: قد أفلح مَن زكّى نفسه، أي: اكتسب الزكاء الذي قد خَلَقه الله تعالى له». ثم ذكر حديث سعيد بن أبي هلال السابق، ثم علَّق عليه بقوله: «وهذا الحديث يُقوِّي أنّ المُزكِّي هو الله تعالى». وذكر ابنُ تيمية (٧/ ٢٤) معنى الاحتمال الأول، فقال: «وقيل: قد أفلحتْ نفسٌ زَكّاها الله، وقد خابتْ نفس دسّاها الله. وهذا قول الفراء والزّجّاج، وكذلك ذكره الوالبي عن ابن عباس». ثم انتقده -مستندًا إلى اللغة، والدلالة العقلية- قائلًا: «وهو منقطع، وليس هو مراد من الآية، بل المراد بها الأول [يقصد القول بأن فاعل زكى هو الإنسان] قطعًا لفظًا ومعنى. أما اللفظ فقوله: {مَن زَكّاها} اسم موصول، ولا بُدّ فيه مِن عائد على {مَن}، فإذا قيل: قد أفلح الشخص الذي زَكّاها. كان ضمير الشخص في {زَكّاها} يعود على {مَن}، وهذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته، كما يقال: قد أفلح مَن اتقى الله، وقد أفلح مَن أطاع ربه، وقد أفلح مَن خاف منه. وأمّا إذا كان المعنى: قد أفلح مَن زَكّاه الله. لم يبق في الجملة ضمير يعود على {مَن}، فإنّ الضمير على هذا يعود على الله، وليس هو {مَن}، وضمير المفعول يعود على النفس المتقدّمة، فلا يعود على {مَن} لا ضمير الفاعل ولا المفعول، فتخلو الصلة من عائد، وهذا لا يجوز. نعم، لو قيل: قد أفلح مَن زَكّى الله نفسه، أو مَن زَكّاها الله له، ونحو ذلك صحّ الكلام، وخفاء هذا على مَن قال به مِن النحاة عجب. وهو لم يقل: قد أفلحتْ نفس زَكّاها. فإنه هنا كانت تكون زَكّاها صفة لنفس لا صلة، بل قال: {قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها}، فالجملة صلة لـ {مَن} لا صفة لها. ولا قال أيضًا: قد أفلحتْ النفس التي زَكّاها. فإنه لو قيل ذلك وجعل في {زكاها} ضمير يعود على اسم الله صحّ. فإذا تكلّفوا وقالوا: التقدير {قد أفلح مَن زَكّاها} هي النفس التي زَكّاها. وقالوا: في زَكّى ضمير المفعول يعود على {مَن}، وهي تصلح للمذكر والمؤنث، والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي، ولهذا قيل: {قد أفلح}، ولم يقل: قد أفلحتْ، قيل لهم: هذا مع أنه خروج مِن اللغة الفصيحة فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا} [الأحزاب: ٣١]، فإنّ قوله: {منكن} دلَّ على أنّ المراد: النساء، فقيل:» تعمل «، وكذا قوله: {ومِنهُمْ مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ} [يونس: ٤٢] ونحو ذلك، وأمّا هنا فليس في لفظ {مَن} وما بعدها ما يدل على أنّ المراد به النفس المؤنثة، فإنه لم يقل: قد أفلحتْ، ولا قال: قد أفلح من النفوس مَن زَكّاها، وقد تقدّمها قوله: {ونَفْسٍ وما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها} [الشمس: ٧ - ٨]، ثم قال: {قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها وقَدْ خابَ مَن دَسّاها}، فتقدّم ما يصح عود ضمير المؤنث إليه، ولم يتقدّم دليل على عوده إلى غير ذلك، فلا يجوز أن يُراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته؛ فإنّ مثل هذا مما يصان كلام الله عنه، فلو قُدِّر احتمال عود ضمير {زكاها} إلى» نفس «وإلى {مَن} مع أنّ لفظ {من} لا دليل يوجب عوده عليه لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر لعدم دلالته على التأنيث، فإنّ الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومَن تكلّف غير ذلك فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن مُنَزّه عن ذلك، والعدول عما يدُلُّ عليه ظاهر الكلام إلى ما لا يدل عليه بلا دليل لا يجوز ألبتة، فكيف إذا كان نصًّا من جهة المعنى؟! فقد أخبر الله أنه يلهم التقوى والفجور، ولبسط هذا موضع آخر. والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله: {قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها}، فلو قُدِّر أنّ المعنى: قد أفلح مَن زَكّى الله نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي؛ ولا ترغيب ولا ترهيب. والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر، فلا يقول: مَن جعله الله مؤمنًا. بل يقول: {قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: ١]، {قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى} [الأعلى: ١٤]، إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلًا؛ فكيف بكلام الله؟! ألا ترى أنه في مقام الأمر والنهي والترغيب والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد والوعيد، والمدح والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم: إمّا بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأمّا في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النِّعم. كقوله: {ولَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ ما زَكى} الآية [النور: ٢١]، فهذا مناسب. وقوله: {قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى} [الأعلى: ١٤]، وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى». ورجَّح ابنُ القيم (٣/ ٣١٠) -مستندًا إلى النظائر، ودلالة العقل- الاحتمال الثاني، فقال: «هذا القول هو الصحيح، وهو نظير قوله: {قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى} [الأعلى: ١٤]، وهو سبحانه إذا ذكر الفلاح علّقه بفعل المفلح، كقوله: {قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: ١] إلى آخر الآيات». ثم ذكر حُجّة أصحاب الاحتمال الأول، فقال: «قال أرباب هذا القول: قد أقسم الله بهذه الأشياء التي ذكرها لأنها تدل على وحدانيته، وعلى فلاح من طهّره، وخسارة مَن خذله، حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه وإهلاكها بالمعصية من غير قدرٍ سابق، وقضاء متقدم. قالوا: وهذا أبلغ في التوحيد الذي سيقت له هذه السورة، قالوا: ويدل عليه قوله: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها}، قالوا: ويشهد له حديث نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: انتبهت نفسي ليلة، فوجدتُ رسول الله وهو يقول: «ربِّ، أعطِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنت خير مَن زَكّاها، أنت وليّها ومولاها». قالوا: فهذا الدعاء هو تأويل الآية، بدليل الحديث الآخر: أنّ النبي كان إذا قرأ: {قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها} وقف، ثم قال: «اللهم، آتِ نفسي تقواها، أنت وليّها ومولاها، وزَكِّها أنت خير مَن زَكّاها». قالوا: وفي هذا ما يبيّن أنّ الأمر كلّه له سبحانه، فإنه هو خالق النفس ومُلهِمها الفجور والتقوى، وهو مُزكِّيها ومُدسِّيها، فليس للعبد في الأمر شيء، ولا هو مالك من أمر نفسه شيئًا». ثم انتقدهم قائلًا: «هذا القول وإن كان جائزًا في العربية، حاملًا للضمير المنصوب على معنى {مَن} وإن كان لفظها مذكرًا، كما في قوله: {ومِنهُمْ مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ} [يونس: ٤٢] جمع الضمير وإن كان لفظ {من} مفردًا حملًا على نظمها، فهذا إنما يحسن حيث لا يقع لبس في مفسر الضمائر، وههنا قد تقدم لفظ {من}، والضمير المرفوع في {زَكّاها} يستحقه لفظًا ومعنًى، فهو أولى به، ثم يعود الضمير المنصوب على النفس التي هي أولى به لفظًا ومعنًى، فهذا هو النظم الطبيعي الذي يقتضيه سياق الكلام ووضعه، وأمّا عود الضمير الذي يلي {من} على الموصول السابق، وهو قوله: {ونَفْسٍ وما سَوّاها}، وإخلاء جاره الملاصق له وهو {من}، ثم عود الضمير المنصوب وهو مؤنث على {من} ولفظه مذكر دون النفس المؤنثة؛ فهذا يجوز لو لم يكن للكلام محمل غيره أحسن منه، فأمّا إذا كان سياق الكلام ونظمه يقتضي خلافه، ولم تدع الضرورة إليه؛ فالحمل عليه ممتنع. قالوا: والقول الذي ذكرناه أرجح من جهة المعنى لوجوه: أحدها: أن فيه إشارة إلى ما تقدّم مِن تعليق الفلاح على فعل العبد واختياره كما هي طريقة القرآن. الثاني: أنّ فيه زيادة فائدة، وهي إثبات فعل العبد وكسبه وما يثاب وما يعاقب عليه، وفي قوله: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها} إثبات القضاء والقدر السابق، فتضمّنت الآيتان هذين الأصلين العظيمين، وهما كثيرًا ما يقترنان في القرآن؛ كقوله: {إنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ وما يَذْكُرُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ} [المدثر: ٥٤ - ٥٦]، وقوله: {لِمَن شاءَ مِنكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ} [التكوير: ٢٨ - ٢٩] فتضمّنت الآيتان الرد على القدرية والجبرية. الثالث: أنّ قولنا يستلزم قولكم دون العكس، فإنّ العبد إذا زَكّى نفسه ودسّاها فإنما يزُكِّيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنما يُدسِّيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه، بخلاف ما إذا كان المعنى على القدر السابق المحض لم يبق للكسب وفعل العبد ههنا ذكر ألبتة».