وعَلَّق ابنُ كثير (٤/ ٣٤٥) على القول الثاني والثالث قائلًا: «فأمّا من فسَّر هذه الآية بأنّ المعنى: أن كل كتابيٍّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أنّ كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلًا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانًا نافعًا له إذا كان قد شاهد المَلَك، كما قال تعالى في هذه السورة: {ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفّارٌ} [النساء: ١٨]، وقال تعالى: {فَلَمّا رَأَوْا بَأَْسَنا قالُوا آمَنّا باللهِ وحْدَهُ وكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} [غافر: ٨٤ - ٨٥]. ومَن تأمل هذا جيِّدًا وأمعن النظر اتَّضَح له أنّ هذا وإن كان هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا». ورَجَّح ابنُ جرير (٧/ ٦٧٢ - ٦٧٥) مستندًا إلى دلالة السنّة، والعقل، والسياق القول الأول، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي مالك، وابن زيد. وانتَقَدَ (٧/ ٦٧٢) القول الثاني بقوله: «لأنّ الله -جلَّ ثناؤه- حَكَمَ لكل مؤمنٍ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بحكم أهل الإيمان في الموارثة، والصلاة عليه، وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة، فلو كان كلُّ كتابيٍّ يؤمن بعيسى قبل موته لوَجَب أن لا يرث الكتابيَّ إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم مِن أهل الإسلام، إن كان له ولدٌ صغيرٌ، أو بالغٌ مسلمٌ، وإن لم يكن له ولدٌ صغيرٌ ولا بالغٌ مسلمٌ أن يكون ميراثه منصرفًا حيث ينصرف إليه مال المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمُه حكمَ المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره؛ لأن مَن مات مؤمنًا بعيسى فقد مات مؤمنًا بمحمدٍ وبجميع الرسل». وانتَقَدَ ابنُ كثير (٤/ ٣٤٥) مستندًا إلى الدلالة العقلية كلام ابن جرير هذا بقوله: «هذا ليس بجيد؛ إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلمًا، ألا ترى إلى قول ابن عباس: ولو تردّى مِن شاهق، أو ضرب بسيف، أو افترسه سبع، فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى. فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافع، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدَّمناه». ووافق ابنُ كثير (٤/ ٣٤٤ - ٣٤٥ بتصرف) ابنَ جرير في نقده للقول الثاني مستندًا إلى السياق، والسنّة، فقال: «لأنّه المقصود من سياق الآي في تقرير بُطْلان ما ادَّعته اليهود من قَتْل عيسى وصَلْبه، وتسليم مَن سَلَّم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنّه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شُبِّه لهم، فقتلوا الشبيه وهم لا يتبيَّنون ذلك، ثم إنّه رفعه إليه، وإنه باقٍ حيٌّ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلَّت عليه الأحاديث المتواترة، فأخبرت هذه الآية الكريمة: أنّه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذٍ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم». وانتَقَدَ ابنُ جرير (٧/ ٦٧٤، ٦٧٥) القول الثالث بقوله: «وأمّا الذي قال: عنى بقوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}: ليؤمنن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل موت الكتابي، فما لا وجْه له مفهوم؛ لأنّه مع فساده مِن الوجه الذي دلَّلنا على فساد قول من قال: عنى به: ليؤمنَنَّ بعيسى قبل موت الكتابيّ. يزيده فسادًا أنّه لم يَجْرِ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في الآيات التي قَبْل ذلك ذِكْرٌ، فيجوز صرف الهاء التي في قوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} إلى أنها مِن ذكره، وإنّما قوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} في سياق ذِكْر عيسى وأمه واليهود، فغيرُ جائزٍ صرْفُ الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجةٍ يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبرٍ عن الرسول تقوم به حجة، فأما الدَّعاوى فلا تتعذر على أحدٍ». وانتَقَدَ ابنُ تيمية (٢/ ٣٦٣ - ٣٦٤) مستندًا إلى ظاهر لفظ الآية، والعموم، ودلالة العقل القول الثاني والثالث بأنه: «لو آمَنَ به قبل الموت لنفعه إيمانه به، فإنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِر. وإن قيل: المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة، لم يكن في هذا فائدة؛ فإنّ كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده، فلا اختصاص للمسيح به، ولأنّه قال: {قبل موته}، ولم يقل: بعد موته. ولأنّه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد -صلوات الله عليهما وسلامه-، واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرًا بمحمد والمسيح -عليهما الصلاة والسلام-، ولأنه قال: {وإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}، وقوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} فِعْلٌ مُقْسَمٌ عليه، وهذا إنما يكون في المستقبل، فدلَّ ذلك على أنّ هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا، ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال: وإن من أهل الكتاب إلا مَن يؤمن به، لم يقل: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ}. وأيضًا فإنّه قال: {وإن مِن أهل الكتاب}، وهذا يعم اليهود والنصارى، فدلَّ ذلك على أنّ جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح، وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنّه رسول الله، ليس كاذبًا كما تقول اليهود، ولا هو الله كما تقوله النصارى. والمحافظة على هذا العموم أولى مِن أن يُدَّعى أنّ كل كتابيّ ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابيّ، فإنّ هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني، وهذا خلاف الواقع، وهو لَمّا قال: {وإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} دلَّ على أنّ المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو عُلِم أنّه أُرِيد بالعموم عمومَ مَن كان موجودًا حين نزوله، أي: لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به، لا إيمان من كان منهم ميتًا».