ورجَّح ابنُ جرير (١٧/ ٢٦١ - ٢٦٢) مستندًا إلى الدلالات العقلية القولَ الأخير، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: عُني بذلك: الوجه، والكفان، يدخل في ذلك إذا كان كذلك: الكحل، والخاتم، والسوار، والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع على أنّ على كل مُصَلٍّ أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأنّ عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النِّصف؛ فإذ كان ذلك مِن جميعهم إجماعًا كان معلومًا بذلك أنّ لها أن تُبدي من بدنها ما لم يكن عورةً كما ذلك للرجال؛ لأنّ ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره. وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلومًا أنه مما استثناه الله -تعالى ذِكْرُه- بقوله: {إلا ما ظهر منها}؛ لأن كل ذلك ظاهر منها». وانتقد ابنُ تيمية (الفتاوى ٢٢/ ١٠٩، ١١٥) مستندًا إلى الدلالات العقلية قياسَ ما يُسْتَر عن أعين الناظرين على ما يستر في الصلاة، فقال: «إنّ طائفة من الفقهاء ظنُّوا أن الذي يُستر في الصلاة هو الذي يُستر عن أعين الناظرين، وهو العورة، وأخذوا ما يُستر في الصلاة من قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية ... يسمون ذلك: باب ستر العورة، وليس هذا من ألفاظ الرسول ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: ٣١]». ثم أجاب (الفتاوى ٢٢/ ١١٣ - ١١٥) عن هذا المأخذ مبينًا أن العورة في الصلاة ليست مرتبطة بعورة النظر بقوله: «فأخذ الزينة في الصلاة لحقِّ الله، فليس لأحد أن يصلي عُريانًا ولو كان وحده، ولا أن يطوف بالبيت عريانًا ولو كان وحده بالليل؛ فعُلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع وهذا نوع، وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال، فالأول مثل المنكبين؛ فإنّ النبي نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء. فهذا لحقِّ الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، كما قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار». وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لهؤلاء ولا لغيرهم. وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدى ذلك للأجانب على أصح القولين، بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب، وأمّا ستر ذلك في الصلاة فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء؛ كأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك القدم يجوز إبداؤها عند أبي حنيفة، وهو الأقوى». إلى أن قال: «وبالجملة قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنّما ذلك إذا خرجت، وحينئذ فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كُنَّ يمشين أولًا قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن؛ فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طردًا ولا عكسًا». أمّا ابن عطية (٦/ ٣٧٥) فقد ساق الأقوال، ثم علَّق بقوله: «ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ويقع الاستثناء في كل ما غلبها؛ فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بُدَّ منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفوُّ عنه، فغالب الأمر أنّ الوجه بما فيه والكفين يكثر فيهما الظهور، وهو الظاهر في الصلاة، ويحسن بالحسنة الوجه أن تستره إلا مِن ذي حرمة محرمة، ويحتمل لفظ الآية أنّ الظاهر من الزينة لها أن تبديه، ولكن يقوي ما قلناه الاحتياط، ومراعاة فساد الناس، فلا يظن أن يباح للنساء من إبداء الزينة إلا ما كان بذلك الوجه».