ورجّح ابنُ جرير (١٧/ ٣٠٧) القول الثاني، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم، فآمنوا به، وصدقوا بما فيه في قلوب المؤمنين، مثل مشكاة، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وذلك هو نظير الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها. وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ، وهو أجوف، مفتوح الأعلى، فهو كالكوة التي في الحائط التي لا تنفذ. ثم قال: {فيها مصباح} وهو السراج، وجعل السراج، وهو المصباح مثلًا لِما في قلب المؤمن مِن القرآن والآيات المبينات. ثم قال: {المصباح في زجاجة}، يعني: أنّ السراج الذي في المشكاة في القنديل، وهو الزجاجة، وذلك مثل للقرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره. ثم مثل الصدر -في خلوصه مِن الكفر بالله، والشك فيه، واستنارته بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه المبينات، ومواعظه فيها- بالكوكب الدري، فقال: {الزجاجة} وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه {كأنها كوكب دري}». وعلّق ابنُ عطية (٦/ ٣٨٦ - ٣٨٧) على الأقوال الثلاثة الأولى بقوله: «وهذه أقوالٌ فيها عَوْد الضمير على مَن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية». وعلّق على القول الرابع، فقال: «وقالت فرقة: الضمير في {نُورِهِ} عائد على اللَّه، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد بـ» النور «الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق، كما تقول: سماء الله، وناقة الله. فقال بعضها: هو محمد. وقال بعضها: هو المؤمن. وقال بعضها: هو الإيمان والقرآن. وهذه الأقوال مُتَّجهة مُطَّرد معها المعنى، فكأنّ اليهود لَمّا تأولوا: {اللَّه نُورُ السَّماواتِ والأَرْضِ} بمعنى: الضوء، قيل لهم: ليس كذلك، وإنما هو نور فإنه قَوام كل شيء، وهاديه، مثل نوره في محمد أو في القرآن والإيمان كَمِشْكاةٍ، وهي الكوة غير النافذة، فيها القنديل ونحوه. وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء مِن المثال لجزء مِن الممثل، فعلى قول مَن قال الممثل به: محمد - عليه السلام -. وهو قول كعب الحبر، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو المشكاة، أو صدره. والمِصْباحُ: هو النبوءة وما يتصل بها مِن عمله وهداه. والزُّجاجَةُ: قلبه. والشجرة المباركة: هي الوحي، والملائكة رسل إليه، وسببه المتصل به. والزيت: هو الحجج والبراهين، والآيات التي تضمنها الوحي. وعلى قول مَن قال: الممثل به المؤمن، وهذا قول أبي بن كعب، فالمشكاة: صدره. والمِصْباحُ: الإيمان والعلم. والزُّجاجَةُ: قلبه. والشجرة: القرآن. وزيتها: هو الحجج والحِكمة التي تضمنها. قال أبي: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات. ومَن قال: إنّ الممثل به القرآن والإيمان؛ فتقدير الكلام: مَثَلُ نُورِهِ الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كَمِشْكاةٍ، أي: كهذه الجملة، وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين؛ لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان». ثم قال: «وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي: فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيُّها البشر».