واستدل ابنُ عطية (١/ ٢٦٧) لذلك أيضًا مستندًا لدلالة اللغة، والسّياق بدلالة لفظة {أحاطت}؛ لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته، وبأنّ الآية واردة في سياق الرد على كفارٍ ادَّعَوا أن النار لا تمسهم إلا أيًاما معدودة، فهم المراد بالخلود. ورجَّح ابنُ تيمية (١/ ٢٦٢ - ٢٦٤ بتصرف) ذلك معتمدًا نفس الأدلة التي اعتمدها ابن جرير وابن عطية، وزاد استدلالًا بدلالة العقل، والنّظائر، فقال: «أنه سبحانه غاير بين لفظ المكسوب، والمحيط، فقال: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته}، فلو كان المراد بهذا هذا لم يُغايِر بين اللفظين، فعُلِم أن المراد بالسيئة: الشرك. والمشرك له خطايا أُخَر غير الشرك، فذكر أنّ خطاياه أحاطت به، فلم يتب منها. وأيضًا فقوله: {سيئة} نكرة، وليس المراد جنس السيئات بالاتفاق، فلو كسب شيئًا من السيئات الصغائر، ومات مصرّا على ذلك مع إيمانه وكثرة حسناته لم يستحق هذا الوعيد بالكتاب والسنة والإجماع. وأيضًا فلفظ:» السيئة «قد جاء في غير موضع وأريد به الشرك. وأيضًا فقوله: {سيئة} أي: حالًا سيئة، أو مكانة سيئة، ونحو ذلك كما في قوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة} [البقرة: ٢٠١] ليس المراد حسنة ما، بل حسنة تعم الخير كله، وهذا اللفظ قد يكون صفة، وقد ينقل من الوصفية إلى الاسمية وهو معدول عن السايئ، وقد يستعمل لازمًا ومتعديًّا فيقال: ساء هذا الأمر، وهو سيِّء، كما يقال: قبح فهو قبيح، وخبث فهو خبيث، ولهذا يقال في مقابلته الحسنة، وهي ما كانت في نفسها حسنة في نفسها، وقد يقال: ساءني هذا الأمر، وهذا مما يسوء فلانًا، ... فالسيئة في نفسها قبيحة خبيثة، وهي تسوء صاحبها، أي: تضره، كما أن الحسنة تسر وتحسن صاحبها، والذي هو سيئة مطلقًا لا تمحوه حسنته هو الكفر، فكان وصف السوء لازمًا له، أي: هو في نفسه سيء ويسوء صاحبه، وأما ما دون الكفر فقد يغفر لصاحبه فلا يسوؤه، ولما قال: {وأحاطت به خطيئته} دل على أن السيئة ساءته، ودخلت في الخطايا التي أحاطت به، فلا يمكنه الخروج منها لا بحسنات أخر ولا بغيرها، فإن الكفر لا يقابله شيء من الحسنات إلا التوبة منه بالإيمان. وأيضًا فقد قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} إلى قوله: {أولئك أصحاب النار هم خالدون} [يونس: ٢٦ - ٢٧]، قال ابن عباس: عملوا الشرك؛ وذلك لأنه وصفهم بأنهم كسبوا السيئات فقط، ولو كانوا مؤمنين لكان لهم حسنات وسيئات، وكذلك هنا لما قال: {كسب سيئة} ولم يذكر حسنة دلَّ على أنها سيئة لا حسنة معها، وهذا لا يكون إلا سيئة الكفر، ولفظ السيئة قد يكون عامًّا، وقد يكون مطلقًا فيراد به السيئة المطلقة التي لا تقبل المحو عن صاحبها، بل هي مهلكته وموبقته، وهذا هو الكفر. وقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}، {أحسنوا} أي: فعلوا الحسنى، وهو يتناول ما أُمِرُوا به مُطْلَقًا، فإذا كانت الحسنة تتناول المأمور، فكذلك السيئة تتناول المحظور، فيدخل فيها الشرك الذي هو رأس السيئات، كما يدخل في الإحسان الإيمان الذي هو رأس الحسنات، كما قد فسروا بذلك قوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون* ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} الآية [النمل: ٨٩ - ٩٠]».