أما المأثور عن التابعين، فإذا كان منقولًا عن أهل الكتاب، قدم التفسير بالرأي عليه، وأما إذا لم ينقل عنهم، رجعنا به إلى السمع، فما أيده السمع، حُمِل النظم الكريم عليه، فإن لم يترجح أحدهما بسمع ولا بغيره من المرجحات، فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد، بل نُنزل اللفظ الكريم منزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه" (١).
هذا الذي ذكره الشيخ عبد العظيم افتراض ذهني لا علاقة له بواقع التفسير، ولا يمكن تطبيقه بهذه الطريقة التي ذكرها، وليس المراد هنا نفي وقوع التعارض جملة، لكن هذه الترتيبات التي ذكرها، وهذه المصطلحات التي حشدها لا تكاد توجد في العمل التفسيري.
وتفصيل الرد عليه يطول، ويخرج عن المقصود هنا.
٥ - من لوازم هذا التقسيم للتفسير المأثور أن ما عداه فهو من التفسير بالرأي، وهذا مُشْكِل من جهة تاريخ الرأي في التفسير، فالرأي -سواءً كان محمودًا أو مذمومًا- يعني اعتماد المفسر على اجتهاده في تفسير النص، وهذا الاجتهاد سواء أكان خطأ أم صوابًا هو رأي لصاحبه، وبواكير الرأي -على وجه العموم- كانت في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذلك في ما وقع من فهم بعض الصحابة لبعض الآيات على وجه غير الوجه المراد، فلما سألوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بيَّن لهم المعنى المراد، كفهمهم للظلم في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}[الأنعام: ٨٢]، ففهمهم راجع إلى اجتهادهم، واجتهادهم رأي لهم.
ثم لمّا مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كانوا يفسرون بآرائهم، وكذا تابعهم في ذلك التابعون وأتباعهم، فالتفسير بالرأي بدأ معهم، وليس قسيمًا لأقوالهم، كما يفهم من هذه المقابلة الثنائية بين التفسير بالمأثور (القرآن، والسُّنَّة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين) والتفسير بالرأي (ما عدا هذه الأربعة)، فإن هذه المقابلة ليست بصحيحة، وهذا الذي ذكرته أحد أدلة خطأ هذا التقابل.
(١) مناهل العرفان ٢/ ٦٣ - ٦٥. ووازن هذا المنهج التفكيري بما طرحه الرازي في أساس التقديس ص ٢١٠، وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المنهج الذي يزعم تعارض العقل مع النقل في مؤلفه العظيم "درء تعارض العقل والنقل".