وقد ذكر ابنُ جرير (١٧/ ٥٢٣) الأقوال الثلاثة الأولى، ثم رجّح مستندًا للغة والعموم أنّ اللفظة عامةٌ في كل باطل، فيدخل فيها الشرك والغناء والكذب، وغير هذا من معاني الباطل، فقال: «وأصل الزور: تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى مَن يسمعه أو يراه أنّه خلاف ما هو به، والشِّرك قد يدخل في ذلك؛ لأنه محسَّنٌ لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء؛ لأنه أيضًا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعُه سماعَه، والكذب أيضًا قد يدخل فيه؛ لتحسين صاحبه إيّاه، حتى يظن صاحبُه أنّه حقٌّ، فكلُّ ذلك مِمّا يدخل في معنى الزور. فإذا كان ذلك كذلك فأَوْلى الأقوال بالصواب في تأويله أن يُقال: والذين لا يشهدون شيئًا مِن الباطل؛ لا شركًا، ولا غناء، ولا كذِبًا، ولا غيره، وكل ما لزمه اسم الزور؛ لأنّ الله عمَّ في وصفه إيّاهم أنّهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص مِن ذلك شيء إلا بحُجَّة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل». وبنحوه ابنُ عطية (٦/ ٤٦٢)، حيث قال: «والزُّور: كل باطل زُوِّر وزُخْرِف، فأعظمه الشرك، وبه فسر الضحاك وابن زيد، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، ومنه الكذب، وبه فسَّر ابن جريج». وبنحوهما ابنُ القيم (٢/ ٢٧٠). وظاهرٌ أن الآثار الواردة هنا مبنية على أن {يشهدون} في الآية مأخوذ من المشاهدة، وهو ما رجّحه ابنُ القيم (٢/ ٢٧١) وابنُ كثير (١٠/ ٣٣١)، فقال ابنُ كثير مستندًا إلى السياق: «والأظهر من السياق أنّ المراد: لا يشهدون الزور، أي: لا يحضرونه؛ ولهذا قال: {وإذا مروا باللغو مروا كراما}، أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال: {مروا كراما}». وقد أورد ابنُ عطية قولًا آخر أن {يشهدون} مأخوذٌ من الشهادة، فقال: «وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى: لا يشهدون بالزور، فهو من الشهادة لا مِن المشاهدة، والزور: الكذب». ثم علّق عليه بقوله: «والشاهد بالزور: حاضره ومؤديه فجرةٌ». ثم علّق على القولين بقوله: «فالمعنى الأول أعمُّ، لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى».